حلب وما بعد – بكر صدقي
حين غادرت مدينة حلب مضطراً، في مطلع العام 2013، كان الجيش الحر في أوج عنفوانه. فقد اكتسح لواء التوحيد بقيادة المرحوم عبد القادر الصالح، مع وحدات أخرى، شرقي حلب، في شهر تموز/يوليو 2012، خلال أيام معدودات، وبقي النظام محصوراً في غرب حلب في وضع دفاعي، مع قصف جوي وصاروخي يومي للمناطق التي فقد السيطرة عليها، قصف لا يحقق مكاسب استراتيجية، لكنه يملك قدرة هائلة على التدمير وتحويل حياة سكان المناطق المحررة إلى جحيم.
وهكذا انقسمت أكبر المدن السورية، مساحةً وسكاناً، بين ثلاث قوى: قوات النظام وميليشياته، قوات الجيش الحر، قوات وحدات حماية الشعب الكردية. تغيرت خريطة سيطرة هذه القوى، تغيرات عديدة متفاوتة الأهمية، في غضون السنوات الأربع التي تفصلنا عن بدء معركة تحرير حلب، وارتفع منسوب الدمار العمراني والخسائر البشرية، بين المدنيين بصورة خاصة، لكن التقسيم الثلاثي الأولي بقي على حاله، مع تغيرات هيكلية في أجسام قوات كل من النظام والمعارضة، في حين حافظت القوات الكردية على وضعها الأولي ومناطق سيطرتها المحدودة بالأحياء ذات الغالبية السكانية الكردية.
أما قوات النظام، فقد تغيرت تركيبتها كثيراً بحيث غلب عليها طابع الميليشيات الشيعية المستوردة من لبنان والعراق وإيران، وأصبح سلاح الطيران الغالب، منذ خريف العام 2015، هو السلاح الجوي الروسي الذي عمل بشراسة وفعالية فاقت ما كان لدى طيران النظام الكيماوي.
بالمقابل، تغيرت تركيبة قوات المعارضة من مقاتلين محليين في إطار كتائب وألوية الجيش الحر، إلى فصائل إسلامية في غالبيتها، متفاوتة المسافة عن تيار السلفية الجهادية الذي لا يعترف بالحدود الوطنية للدولة السورية، ناهيكم عن مشروع مستقبلي لسوريا ديمقراطية مدنية.
بيد أن المشكلة لم تبدأ مع التحول الإسلامي لغالبية الفصائل، بل في غياب استراتيجية وطنية لأولئك المقاتلين الشجعان الأوائل الذين أوهمتهم دول إقليمية داعمة، وكذا أطر المعارضة السياسية، بأن معركة تحرير مدينة حلب هي الخطوة الأولى على طريق تحرير سوريا من نظام الأسد، وأن ذلك أصبح في المتناول. الواقع أن أحداثاً كبيرة حدثت، في تلك الفترة، كانت مما يعزز هذا الوهم: كالتفجير الذي وقع في مبنى مكتب الأمن القومي واستهدف خلية إدارة الأزمة، وحدوث انشقاقات على مستوى عالٍ من النظام، وسيطرة الثوار على المعابر الحدودية مع تركيا، ودخول الجيش الحر لأحياء طرفية في دمشق كبرزة وجوبر.
لم يمض وقت طويل على تحرير شرقي حلب، حتى اتضح أن الوضع استقر على التقسيم الثلاثي المذكور أعلاه، في توازن قوى غير مسموح، دولياً، بكسره. أي لا يسمح لقوات المعارضة باستكمال تحرير حلب، ولا يملك النظام قوات برية كافية لإعادة سيطرته على المناطق المحررة من المدينة، في الوقت الذي كان يخوض فيه معارك يائسة على جبهات كثيرة متفرقة على الجغرافية السورية، أنهكت قواته المتنقلة من منطقة إلى أخرى.
وهكذا كان تحرير جزء من حلب قد تحول إلى عبء على المعارضة. ففضلاً عن استجلاب قصف النظام الجوي والصاروخي الذي يستهدف المدنيين أساساً، أصبحت فصائل الجيش الحر مسؤولة عن تأمين مستلزمات الحياة لمليونين من السكان، على رغم النزوح الكثيف من مناطق القصف. كما أنها باتت تتحمل المسؤولية الأخلاقية عن تجاوزات بعض مقاتليها بحق السكان. في شهر تموز/يوليو بالذات سمعتُ شكاوى بعض الأهالي في المناطق المحررة من تجاوزات الجيش الحر بوصفه سلطة الأمر الواقع الجديدة.
وفي المناطق الكردية (حيي الشيخ مقصود والقسم الطرفي من الأشرفية) بنى حزب الاتحاد الديمقراطي حكمه الدكتاتوري على السكان، بصورة متدرجة ولكن ثابتة، وأنشأ كياناً سياسياً جديداً أسماه «مجلس شعب غربي كردستان» سيتطور لاحقاً إلى إدارة ذاتية قبل أن يعلن الحزب الكردي مناطق سيطرته كياناً فيدرالياً في العام 2015.
تأخرت معركة استعادة سيطرة النظام على شرقي حلب، وكان قد أعلن عنها مراراً خلال السنوات الماضية، بسبب عدم امتلاكه لقوات كافية، ثم بسبب اختلاف الأجندتين الإيرانية والروسية بشأن المدينة ومستقبلها. لكن انهيار التفاهم الروسي ـ الأمريكي الذي أعلن في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، دفع الروس إلى حسم أمرهم بشأن السيطرة على حلب في الوقت الضيق المتبقي من عمر إدارة باراك أوباما في السلطة. كما تمكنت موسكو من إقناع تركيا بالتخلي عن مدينة حلب مقابل الجيب التركي في الريف الشمالي. ومن المحتمل أنها خدعت الأتراك بالإيحاء بأنها موافقة على خطة ديمستورا مقابل سعي تركيا لسحب مقاتلي جبهة فتح الشام (النصرة سابقاً) من شرق حلب. وتلقت تركيا أول الغدر الروسي قرب مدينة الباب، حين قصف طيران النظام الكيماوي موقعاً لقوات النخبة التركية هناك، في الذكرى السنوية الأولى لإسقاط تركيا طائرة السوخوي الروسية على الخط الحدودي بين تركيا وسوريا، فقتلت أربعة جنود أتراك، في رسالة ترسم الحدود المسموح بها لتركيا، وقوات المعارضة المتحالفة معها، الوصول إليها في عمق الجيب التركي. أي أن مدينة الباب المحتلة من قبل داعش لن تعطى لتركيا وحلفائها السوريين، بقرار روسي ـ أسدي.
التعاون المباشر الصريح بين ميليشيات النظام والميليشيات الكردية في السيطرة على القسم الشمالي من حلب الشرقية، ينبئ بتعاون مماثل بين الطرفين بشأن معركة الباب، بحيث تقوم قوات صالح مسلم بتحرير المدينة من داعش، بإسناد جوي روسي، لمصلحة النظام.
بالعودة إلى حلب المكلومة، من المحتمل أن يتمكن حلفاء النظام من استعادة كامل حلب قبل انتقال السلطة في واشنطن، إذا بقي ميزان القوى المختل الذي رأيناه في الأيام القليلة الماضية على حاله. وإذا كان ذلك سيشكل هزيمة مؤكدة للفصائل المسلحة في شرقي حلب، فهو لن يكون، بالمقابل، نصراً للنظام، بل لروسيا وإيران والميليشيات التابعة لهذه الأخيرة. فالنظام الذي رهن نفسه ومستقبل سوريا للقوى الأجنبية الداعمة، لا يمكنه الانتصار أبداً.
٭ كاتب سوري
القدس العربي 1-12-2016