اعتراف واعتذار إلى الشعب السوري-سميرة المسالمة
أتقدّم بهذا الاعتراف إلى الشعب السوري العظيم الذي أفتخر بالانتماء إليه، والذي دفع أثماناً باهظةً من عمره وعمرانه، عذاباتٍ وتضحياتٍ وتشرّداً، لإسقاط نظام الفساد والاستبداد، وفي سبيل نيل حريته، واستعادة كرامته في دولة مدنية وديمقراطية، دولة مواطنين أحرار ومتساوين.
هذا مقال أعتذر فيه لهذا الشعب الأبيّ عدم استطاعتي القيام بما توجبه عليّ مسؤوليتي نائباً لرئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، أو بوصفي مشاركةً في هذا الكيان السياسي للمعارضة، وذلك لأسباب خارجة عن إرادتي وإرادة السوريين الأحرار الموجود بعضهم داخل هذا الكيان.
أودّ، هنا، أن أصارحكم بأوجه القصور التي تكتنف عملنا في المعارضة، لاعتقادي أن هذا حق لكم، ولإيماني بضرورة إخضاع كياناتنا وخطاباتنا وأشكال عملنا للمراقبة والنقد والمحاسبة. وأيضاً لإيماني بخطأ إحالة أوجه القصور إلى الظروف الموضوعية أو الخارجية وحدها، لأن ذلك ينطوي على التبرير والتلاعب والتخليّ عن المسؤولية السياسية والأخلاقية أمام شعبٍ يعيش المآسي، ويسطّر التضحيات، ويقدّم مدينة إثر أخرى، قرباناً لهذه الحرية التي خرج من أجلها. وإذا كنا اليوم أمام مشهد حلب الدامي، فقد سبقته مشاهد مدن وقرى، من درعا مدينتي مهد الثورة إلى حمص وإلى ريف دمشق وإدلب.
لا أتوخّى من إعلان هذا الإقرار على الرأي العام مكسباً ذاتياً، أو تحقيق مكانةٍ خاصة، إذ من واجبي السياسي والأخلاقي وضع شعبنا في صورة ما يجري، ووضع نفسي تحت طائلة المحاسبة، وأعتقد أن هذا يُلزم كل زملائي في المعارضة بأن نواجه أنفسنا بهذه الأسئلة: لماذا عجز “الائتلاف” عن تعزيز مكانته في مجتمعات السوريين في الداخل والخارج؟ لماذا لم يستطع استيعاب كل المكونات السياسية للسوريين؟ هل تعبّر تشكيلته حقاً عن واقع الثورة السورية؟ وهل يلبّي حاجةً ما لهذه الثورة في وضعه، أو تركيبته الراهنة؟ ثم ما الذي أضفناه أو فعلناه أو أثّرنا به أفراداً أو هيئةً فيه؟ لماذا بقي غير قادر على إيجاد موطئ قدم له في “المناطق المحرّرة”؟ ولماذا ظلت علاقاته مع الفصائل العسكرية محدودةً أو لا تعني شيئاً؟ وما الذي جنيناه من الارتهان لإرادة هذه الدولة أو تلك؟
أعرف أن هذه أسئلة صعبة ومعقدة، وأعرف أن الظروف الدولية والإقليمية والعربية ضاغطةٌ علينا، ولكنني أعرف أنه كان في وسعنا لو توفرت الإرادة الصادقة، والعزيمة القوية، والرؤية الموضوعية والمخلصة، أن تكون أوضاعنا أحسن حالاً، وأن تكون إجابتنا على تلك الأسئلة والتحديات أفضل بكثيرٍ مما نحن عليه.
لأجل ذلك كله، لأجل الشهداء والجرحى والمصابين، ولأجل المحاصرين والمشردين، أعتقد أن واجبنا في “الائتلاف” أن نجري مراجعةً نقديةً شجاعةً ومسؤولةً لمسيرتنا، وأن نضع هذا الكيان تحت طائلة النقد والمساءلة والمحاسبة، فلا أحد معصومٌ من الخطأ، فالحركات السياسية الحيّة والمسؤولة، والواثقة من ذاتها، هي التي تحاسب نفسها أمام شعبها. أقصد مراجعةً صادقةً وجادةً ومجديةً، وليس كما جرى في اجتماع الهيئة العامة للائتلاف، في دورةٍ سميت باسم حلب، أهم حاضراتنا التاريخية والاقتصادية، ثم خرجنا بخفيْ حنين، حتى عجزنا عن استصدار بيانٍ نحدّد فيه موقعنا من جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً).
أبدأ حديثي، أولاً، عن واقع “الائتلاف” الذي هو نتاج ورهن المكونات التي وُجدت فيه، بمعزل عن تمثيله مجمل قوى المعارضة، أو حجمها في المجتمع، وهي مكوناتٌ ضعيفة الفاعلية، ومحدودة التمثيل، وتفتقر للتجربة، والسبب معروفٌ، وهو أن النظام حرّم الحياة الحزبية، ومنع السياسة. أيضاً، هذه المكونات شكّلت هيئةً ناخبة من حوالي مائة شخص، حصرت تمثيل الشعب فيها، محوّلة بذلك “الائتلاف” إلى كيان مغلق، ما يتنافى مع أبجديات السياسة، وضرورات تشكيل أوسع كيان تمثيلي معارض، وحيازة أوسع قاعدة شعبية. وقد شهدنا أن هذا الوضع أضرّ بالثورة، ولم يفد المعارضة، وجعل “الائتلاف” كياناً جامداً لا روح له، ويفتقد المبادرة والكفاءات والمصداقية أمام شعبه، وأمام الرأي العام العالمي، فضلا عن تحول بعضه إلى جهاز موظفين تابعين لهذه الدولة أو تلك، أو هذا المكون أو ذاك.
ثانياً، لم أشهد خلال عملي في “الائتلاف” أننا نشتغل كفريق، فنحن، في الحقيقة، بمثابة موظفين نفتقد للروح المؤسّسية. ولا تتناسب اللوائح الداخلية مع كوننا حركةً ثورية، كما أننا نفتقد أبجديات العمل السياسي، وفهم معنى أن “الائتلاف” بمثابة قيادة لثورة شعبٍ هدفها إسقاط نظام استبدادي. وهذا كله يفسر كيف أننا لم نستطع أن نبني كياناً بديلاً، ولا كياناً قابلاً للتطور، فنحن أيضاً نعاني التفرّد في القرارات، وبات عملنا في أغلبيته يقتصر على إصدار البيانات العقيمة، والإدانات الأخلاقية.
ثالثا، ما زالت خطاباتنا تقوم على ردود الفعل، بل إننا لم نسهم في تشكيل الخطاب السياسي للثورة، ونجامل في الخطابات التي تصدرها بعض الفصائل العسكرية، بدلاً من بذل الجهود لمحاورتها، وجذبها إلى خطابٍ يتأسس على إقامة دولة مواطنين ديمقراطية، تراعي التنوّع والتعدّدية في مجتمعنا السوري، بعيداً عن الرؤى الضيقة، والحسابات الفصائلية والطائفية. الأخطر من ذلك أن “الائتلاف” لم يقم بواجبه بكشف جبهة النصرة، أي كشف فكرها التكفيري، ونهجها الإرهابي، بما في ذلك تسلطها على مجتمعات السوريين التي تحرّرت من سيطرة النظام، واعتداءاتها على الجيش الحر وفصائل المعارضة الأخرى، وتنكيله بالنشطاء الأحرار، وهو، في ذلك كله، أضرّ نفسه، وأضرّ صدقية الثورية السورية.
رابعاً، لا بد من كلمةٍ عن الإجحاف الواقع في حق المرأة في هيئات المعارضة، وعن النظرة القاصرة لمكانتها ودورها، على الرغم مما قدمته من تضحيات وبطولات، تشهد لها مسارات الثورة، لاسيما أشهرها الأولى، وهذا أمر ينبغي تداركه.
خامساً، للأسف، لم نستطع في “الائتلاف” أن نقدّم مقاربةً مناسبةً للقضية الكردية، تستوعب حقوقهم، ليس الفردية فحسب، وإنما حقوقهم كجماعة قومية أيضا، هذا أضعف من قدرتنا على استقطاب الكرد جميعهم، من دون أن يعفي بعض الفصائل الكردية من مسؤوليتها على ذلك.
سادساً، لم ينجح “الائتلاف” في استقطاب المثقفين والفنانين والمبدعين السوريين الذين يشكلون رافعةً صلبةً للثورة، وتشكيل هويتها ورموزها ومفاهيمها، بحكم ضعف إدراكه أهمية هذه الفئات، وأهمية تأثيرها في المجتمع. بل ولأن بعض المشاركين به ينظرون بعين الريبة تجاه خطاب المثقفين، لأنه كاشفٌ جهلهم.
باختصار، عجزنا عن ترسيخ “الائتلاف” كياناً للثورة السورية، وكياناً جامعاً للسوريين. فشلنا على مختلف الأصعدة، على صعيد التمثيل، والدور الثوري، وعلى صعيد تقديم النموذج. لذا، آن لهذه الطبقة السياسية في المعارضة أن تعتذر لشعبها، وأن تتنحّى، وأن تتيح المجال لغيرها، ليقوم بما يفترض أن يقوم به.
ما تقدّم ليس اعتذاراً فحسب، بل هو دعوة جادة لنا جميعاً، لنتراجع حيث يجب أن يتقدّم الأفضل والأكثر قدرةً على العمل، حسب معايير الشعب السوري، وليس حسب معايير لجان داخل هذه الكيانات، ومنهم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، الذي عجز حتى عن تمثيل اسمه.
العربي الجديد:16/12/2016