رسائل الدستور الروسي – ميشيل كيلو
ثمّة في “الدستور الروسي” الذي سلم إلى مختلف أطراف الصراع السوري جوانب لا تذكر في نصه، لكنها تستوقف من يلقي نظرة متأنية عليه، لاتصالها بموقف روسيا ومستقبل سورية. أولا: هذا الدستور هو أول وثيقة رسمية روسية تحدّد طبيعة النظام الذي تقترحه موسكو لسورية، وتؤكد فيه أن النظام الأسدي ليس خيارها، والدليل اختلافه عن النظام الذي تقترحه، ولا يشبهه أو يستنسخه أو يبقي على ركائزه وآليات اشتغاله. وإذا كان هناك من أوجه شبه باقية بين الأسدية ونظام الدستور المقترح، فهو يقوم على منح الرئيس صلاحياتٍ واسعةً، تبقى أقل بكثير من صلاحياته الحالية، تصون دوره بالنسبة للمؤسسة العسكرية/ الأمنية وكبار موظفي الدولة وبعض التقاليد البروتوكولية، لكن النظام الرئاسي يتراجع بقوة، لصالح بديل هجين، يختلط فيه المركزي باللامركزي، وتكثر أوجه تقاطعهما وافتراقهما، بينما تذكر ببعض التفصيل الحقوق والواجبات والحريات النابعة من المواطنة المتساوية التي تشبه ما يناله المواطنون في نظام ديمقراطي قيد الإنشاء، وتخترق قطاعي النظام الجديد، المركزي واللامركزي، فإذا أضفنا إلى ما تقدم فوضى الصلاحيات وتداخل المؤسسات وتعارضها، والاستقلالية النسبية التي تمنح لـ”جمعيات المناطق”، أي للمؤسسات اللامركزية، وجدنا أن رئيس النظام سينهمك في صراعٍ دائم مع جميع مفاصل الإدارة والدولة: من المواطنين الأحرار إلى “جمعية الشعب” (البرلمان) المنتخبة بحرية إلى مجلس الوزراء بصلاحياته التي تتقاطع في شؤونٍ عديدةٍ مع صلاحيات الرئيس، إلى “جمعيات المناطق” التي تعبّر عن استقلالية المكونات القومية والإثنية… إلخ. تتخلى روسيا عن النظام الأسدي، أول مرة، في وثيقةٍ رسمية. وكانت هذه الرسالة أحد أهم أسباب توزيع نص دستورها التي تعلم أنه سيرفض.
ثانيا: بدوره، يختلف نظام الدستور المقترح اختلافا بينا عن النظام الديمقراطي لوثيقة جنيف التي أراد الروس إبلاغنا أنها صارت من الماضي، وأن نظامهم يجب أن يكون موضوعَ، أو أحد موضوعات التفاوض في جنيف 4، لكونه يقدم حلا وسطا، يستبدل نظامي الطرفين المتصارعين الاستبدادي/ الأسدي والديمقراطي الوطني، على الثورة قبوله ونسيان الانتقال الديمقراطي هدفاً لتفاوضها مع الأسدية. لا أسدية ولا ديمقراطية: سيكون نظامكم نص/ نص. هذا ما يقوله الدستور.
ثالثا: ثمّة ارتباط وثيق بين قبول النظام الهجين الذي يقترحه الدستور والوجود الروسي في سورية الذي سيكتسب شرعيته من إقامة هذا النظام تحت إشراف موسكو وبضمانتها، وهي التي إما أن تفيد من تحولات الوضع السوري بعد حلب، أو أن يؤول وضعها إلى مصاعب، حدها الأول فشلها في منع استيلاء إيران والنظام على الثمار الاستراتيجية لجهدها العسكري في سورية، وحده الثاني فشلها في تحقيق اختراق في مصلحتها، قبل انخراط أميركا من جديد في المعضلة السورية. ومع أن القيادة الروسية تعتقد بقدرتها على إنجاز هذا الاختراق، بحسبان أن مرحلة ما بعد حلب تضع معظم خيوط الصراع السوري في يدها، وتمكّنها من التلاعب بالفصائل، وتغيير أدوار عدد منها، وربما تحويلها إلى أوراق بيدها تضغط بواسطتها على إيران والنظام، فإنها تدرك وجود نقاط رخوة في موقفها، تلزمها من حلب ورئاسة ترامب فصاعدا بالعمل السريع قدر الإمكان، في الإطار الزمني المحدود المتاح لها في غياب أميركا، واحتمال تغير الوضع الحالي، إما عبر انفجار القتال من جديد، أو/ وعودة واشنطن إلى الصراع بما قد تحمله من وقائع مغايرة لما يأمله الكرملين، منذ فاز ترامب بالرئاسة. هذا الوضع المتناقض المعطيات يمنح المعارضة شيئا من القدرة على المناورة ومواجهة الضغوط لبعض الوقت، إن هي تحسّبت بجدية للوضع، وحللته بصورة صحيحة، وامتلكت ردودا صحيحة على تحدياته، وقدّمت السياسة الأميركية لها بدائل لاحتجازات إدارة أوباما المنهكة. هل ستفيد الفصائل والمعارضة من قدراتها لامتلاك فرص تخدمها، أم ستهدرها عبر فتح أبوابها على موسكو من دون واشنطن، بعد أن كانت مفتوحة على واشنطن ومغلقة في وجهها، على الرغم من أن دستورها يعلمنا بأنها أجرت تعديلا على موقفها من أطراف الصراع السورية لا يجوز للمعارضة تجاهله، بعد فشل جنيف المنتظر.
ينتج الدستور الروسي نظاما ما بعد أسدي/ ما دون ديمقراطي، نصف رئاسي/ شبه برلماني، ويقترح تسويات وحلولا وسطا تجعله غير قابل للتطبيق، من دون أن ينتقص ذلك من أهمية رسالته حول تخلي روسيا عن إعادة إنتاج النظام الأسدي. هل ستعرف المعارضة كيف تضع هذه المرحلة، المعقدة أشد التعقيد، في خدمة الشعب السوري، أم ستضيع مجدّدا ما تضعه تضحيات السوريات والسوريين في متناول يدها؟
العربي الجديد:18/2/2017