قل ما تشاء عن سورية وبلا حساب- عمر قدور
لم تكن متوقعة تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة حول سورية، في مقابلة له الأربعاء الفائت مع ثماني صحف أوروبية. فهو كان أدلى بتصريحات مختلفة أثناء حملته الانتخابية، وحتى بعد توليه الرئاسة واستقباله نظيره الروسي. يُذكر أن ماكرون نال استحسان السوريين على موقفه الذي لا يبتعد من موقف الحكومات الفرنسية منذ اندلاع الثورة، بخلاف المواقف اليي أطلقها منافسوه في سباق الانتخابات مثل لوبن وفيّون وميلانشون. يُذكر أيضاً عدم حدوث تغير درامي في الملف السوري يستدعي انقلاباً في الموقف، وعدم حدوث تغيرات درامية دولية تخص هذا الملف، إلا إذا كان ماكرون معادياً لانخراط أميركي أكبر قليلاً مما سبق.
لتسويق موقفه الجديد، لا يتحرج ماكرون من تسويق المبررات الزائفة، الأمر الذي بات معهوداً لدى مناصري تنظيم الأسد والصامتين عن جرائمه. هكذا هي الحال مثلاً مع قوله أن “الأسد عدو الشعب السوري وليس عدو فرنسا”، فهذا الفصل الذي يبدو منطقياً ظاهراً وساذجاً مفهومياً، يقفز فوق حقيقة ارتكاب الأسد جرائم ضد الإنسانية، وفوق محاولات فرنسية سابقة لتجريمه في مجلس الأمن اصطدمت بالفيتو الروسي، ويقفز بالطبع فوق مسؤولية فرنسا كعضو دائم في المجلس، ما يحمّلها مسؤولية خاصة عن السلم الدولي.
ألا يرى ماكرون الذي لم يكن على الأرجح ليفوز بالرئاسة لولا فضائح فيون المالية وتطرف لوبن، بديلاً شرعياً للأسد على رغم جرائمه، فهذا مما يتنافى مع أبسط قواعد الديموقراطية التي أتت به إلى الرئاسة. إلا إذا كان كمنافسته السابقة لوبن من العنصرية بحيث لا يرى السوريين جديرين بأكثر من ذلك، ولا يراهم جديرين بما طالبوا به منذ اندلاع ثورتهم بحقهم في الديموقراطية، وبحقهم اللاحق في ألا يتولى رئاستهم مجرم حرب ومجرم ضد الإنسانية. ذلك الحق الأصيل لا علاقة له بأي ادعاء يُساق اليوم حول تهافت المعارضة السياسية، أو حول وجود فصائل متطرفة، طالما بقي السوريون محرومين من ممارسته بملء حريتهم.
أما التخوف الذي أبداه ماكرون من تحول سورية إلى بلد فاشل فيذكّرنا بتصريحات المبعوث الدولي السابق الأخضر الإبراهيمي، لكن الفارق الزمني يجعل التخوف الآن أقرب إلى نكتة سمجة. لقد تحولت سورية فعلاً إلى دولة فاشلة منذ سنوات، ومن المخجل ألا يرى رئيس لدولة كبرى ذلك، وألا تضع له مخابراته صورة دقيقة عن انهيار بقايا الدولة في معاقل تنظيم الأسد، باعتبار الأخيرة لم تتضرر منه قصفاً وتدميراً. وإذا كان ماكرون يستلهم الكذبة الدولية التي تتخوف من مصير سوري يشابه مصير العراق إثر إسقاط نظام صدام، فالواقع الذي يفقأ الأعين أن هذه المقارنة من النواحي كافة لم تعد لمصلحة خيار الإبقاء على الأسد.
فوق المغالطات السابقة، ثمة قفز على المسؤولية الأخلاقية الخاصة بفرنسا إزاء بشار الأسد، وتلك في الأنظمة الديموقراطية المحترمة ليست مسؤولية تنقضي برحيل حكومة مع سياساتها. الإليزيه استقبل الأسد استقبال الرؤساء عندما كان يُعَدّ للرئاسة، في تجاوز للبروتوكول أيام الرئيس شيراك، وكان في هذا دعم واضح لمشروع التوريث بحد ذاته بصرف النظر عما إذا كان بشار قد خيب الآمال المعقودة عليه.
إثر اغتيال الرئيس الحريري وتوجيه الاتهام إلى تنظيم الأسد، أتت رئاسة ساركوزي لتفك العزلة عنه، وكانت الذريعة التي تُسوّق خلف الكواليس احتواءه، بدل مضيه في مسلسل الاغتيالات التي أودت بحياة كثير من الشخصيات اللبنانية آنذاك. وإذا أخذنا في الحسبان الالتزام الخاص الذي تبديه الحكومات الفرنسية إزاء لبنان، يمكن القول أن لفرنسا مسؤولية خاصة عن عهد وصاية الأسد على لبنان وتداعياتها المستمرة حتى الآن، وفي رأس التداعيات استقواء “حزب الله” على اللبنانيين ومشاركته الحثيثة في الحرب على السوريين.
في الواقع، كان للموقف الفرنسي الداعم الثورة السورية، والأشد ثباتاً حتى تصريحات ماكرون الأخيرة، أن يغطي ضعف التزام الحكومة الفرنسية تجاه قضية مؤثرة مثل قضية اللاجئين. فرنسا، بخلاف الجعجعة التي رافقت الانتخابات الرئاسية حول موضوع اللاجئين، لم تستقبل إلا عدداً محدوداً جداً من السوريين مقارنة بدول مثل ألمانيا والسويد، وهما تقليدياً غير منخرطتين في الشأن السوري، بل يؤخذ على الحكومة الألمانية عدم اتخاذها موقفاً صارماً إزاء الأسد على رغم تحملها العبء الأكبر للجوء.
في كل الأحوال، إذا كان من مصائب السوريين تجرؤ قادة دول مؤثرة في قول ما يشاؤون وتغيير مواقفهم بلا حساب أو مساءلة، فهذا لا يعني تضخيم الدور الفرنسي، وتضخيم تأثير تصريحات ماكرون الأخيرة. ذلك يتضح مقارنة بالدورين الأميركي والروسي، فقد كان لتراجع أوباما عن خطه الأحمر الشهير وإبرامه صفقة الكيماوي تأثير مدمر في القضية السورية، والجدير بالذكر أن الطيران الفرنسي كان جاهزاً آنذاك لضرب مطارات الأسد لو قرر أوباما توجيه ضربة عسكرية. كما هو معلوم أيضاً، تمّ تهميش الدور الأوروبي كاملاً في الملف السوري، لمصلحة احتكاره أولاً من موسكو وواشنطن، وبعض الدول الإقليمية بدرجة أقل أو عند اللزوم.
لذا، قد يبدو ماكرون أنه يضحي بصدقية أخلاقية من دون طائل، لولا أنه يحاول طرح نفسه كديغول فرنسي جديد، خصوصاً يبرز تمايزه عن سياسة ترامب لمصلحة توجه أكثر أوروبيةً. لكن، مع إدراك عدم تأثير الموقف الفرنسي أو الأوروبي برمته في موضوع بقاء الأسد وتنحيته، يمكن القول أن كلامه الأخير، مع رهانه على تشكيل قطب أوروبي مع ألمانيا لن يكون خبراً ساراً، وقد يؤكد ما تمّ تداوله منذ مدة عن عودة السفير الفرنسي إلى دمشق قريباً. هذا التوجه يعطي جرعة معنوية لتنظيم الأسد، بل سيُرى فيه شرعية دولية تعوّض الشرعية المفتقدة داخلياً.
التذرع بأولوية الحرب على الإرهاب قد يفيد أمام الرأي العام الفرنسي للتغطية على القبول بمجرم ضد الإنسانية، وقد يردّ الأخير الدَّيْن فنشهد انتهاء العمليات الإرهابية في فرنسا، على نحو ما توقف استهداف شخصيات لبنانية إثر استقبال بشار في باريس عام 2008. إذا تحققت هذه الغاية لن يبقى من سبب لمشاركة الطيران الفرنسي في الحرب على “داعش”، ويستطيع ماكرون القول أيضاً أن “داعش” ليس عدو فرنسا.
الحياة:25/6/2017