مبادئ… على اجتماع السوريين أن يستعيدها-منير الخطيب
كانت أزمة الثورة السورية، في بداياتها السلمية عام 2011، أزمة نمو. حينها كان النظام يعاني أزمة انهيار، في مرحلة تالية أصبحت أزمتا المعارضة والنظام أزمتي انهيار، وأسهم تداخل هاتين الأزمتين مع مصالح الدول الإقليمية والدولية إلى نشوء أزمة ثالثة هي أزمة كيان راهنة، طاولت مبادئ الاجتماع الوطني.
تتجلى هذه الأزمة الكيانية، في أحد أبرز وجوهها، في تقاسم الجغرافيا السورية بين أميركا وروسيا وتركيا وإيران، وتحوّل وظيفة المعارضات العسكرية والسياسية والنظام إلى مجرد أدوات هامشية، استقدمت مختلف أنواع التدخلات الخارجية، وتراكبت معها في عملية تكريس النفوذ لتلك القوى الخارجية، وتفتيت المجال الاجتماعي، وتغييب احتمالات تأسيس منطلقات فعلية لمسار وطني.
وصار واضحاً أن المضمون الحصري، الجزئي، الاستبدادي المتأخر، ما دون الوطني، الحاكم على بنى السلطة وميلشياتها الرديفة، والحاكم، أيضاً، على نهج الفصائل الإسلاموية المسلحة المعارضة، التي قدّمت نماذج كارثية في إدارة مناطق سيطرتها، جر سورية والسوريين من استلاب إلى استلاب أكبر، ولا يزال يجرهما في مسار انهياري بلا قعر.
في مواجهة أزمة انهيار كيانية، أفضى إليها صراع «عدمي» بين قوى ما دون وطنية، أضحت أدوارها وظيفية في وضعية تحوّل سورية إلى ساحة اشتباك إقليمي ودولي، بات من واجب السوريين استعادة جملة مبادئ، تهدف إلى تشكيل كتلة مدنية- ديموقراطية وازنة، ونحن نقف على أبواب مرحلة جديدة من المأساة السورية، من هذه المبادئ:
أولاً، استعادة رأسمال سورية الرمزي إلى مجال الفاعلية السياسية والاجتماعية، إذ تمتلك سورية طيفاً واسعاً من شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، تنتمي جذرياً إلى الخيار الوطني الديموقراطي، وتشكل رأسمالاً رمزياً سورياً، زاد من مستوى رمزيته تهافت وسقوط التنظيمات والفصائل الإسلاموية العصبوية المسلحة وغير المسلحة، وكذلك المعارضات السياسوية الداخلية والخارجية على حد سواء، وهؤلاء الذين يتمتعون برأسمال رمزي، ظلوا على الهامش في السنوات الست الماضية، وغابت أصواتهم في مشهد طغت عليه السياسوية والمذهبية والسلاحوية والانتهازية والارتهان لإرادات خارجية.
ثانياً، استعادة القطاعات المدينية والفئات الوسطى. فالكيان السوري الحديث قام في العشرينات على الفكرة المدينية، فبعد انتهاء الحركات المسلحة ضد الفرنسيين في نهاية العشرينات، والتي حملها «المجتمع التقليدي» في الأرياف، انتقل مركز ثقل الحياة السياسية إلى المدن، حيث أصبح الحامل للسياسة هو الأحزاب والطلاب والشرائح البورجوازية والفئات الوسطى، وهذه الحوامل هي التي أنشأت الكيان. في حين أن مساراً معكوساً حدث مع الثورة السورية في 2011، مع انتهاء السلمية والأطر التي شكلها النشطاء الديموقراطيون كالتنسيقيات والهيئات الإعلامية والإغاثية وغيرها، وتراجع الفئات المدينية والوسطى، بفعل الخيار الأمني المتوحش الذي انتهجته السلطة، تولى في المرحلة التالية «المجتمع التقليدي» حمل الحركات الفصائلية الإسلاموية، في مواجهة تلك السلطة ذات القاعدة الأقلوية مذهبياً، والتي استقدمت، بدورها، تلك الفصائلية كجزء من نهجها الأمني. لذا فإن إعادة بناء كتلة وطنية- ديموقراطية، يستوجب تركيب مسار مختلف، يعيد الاعتبار للمدينة وفئاتها الوسطى، وللسياسة بوصفها فاعلية مجتمعية تحكمها ذهنية مدنية.
ثالثاً، استعادة القوم الأكثري في سورية دوره العمومي التنويري، الذي يتطابق مع حدود الوطنية السورية، إذ بواسطة هذه الاستعادة فقط، يستطيع قيادة سيرورة توحيد السوريين بصفته السياسية الوطنية، وليس بصفته المذهبية العددية والتقليدية. لقد استثمر النظام ومن خلفه إيران العنصرية المذهبية، في واقع سيطرة الفصائلية الإسلاموية، وغياب دور السّنة العمومي في سورية. فهذا الدور العمومي للأكثرية كان من ثوابت بناء الكيان الوطني السوري في النصف الأول من القرن الماضي. فالسوريون اليوم بحاجة إلى استعادة الروح الوطنية الاندماجية، التي جسدها سياسيون سوريون كهاشم الأتاسي وسعدالله الجابري وعبد الرحمن الشهبندر وكثيرون غيرهم، فالعودة إلى هؤلاء تجسيد، أيضاً، لعودة إلى لحظة ليبرالية يتيمة في التاريخ السوري، سحقها طغيان ريفي تقليدي معاد للحرية والحداثة.
رابعاً، استعادة السوريين ماهيتهم الإنسانية، بعدما أغرقوها بالصفات الجزئية الوافدة إليها من خارجها، سواء كانت صفات مذهبية أو إثنية أو أيديولوجية، فالإنسية هي من شروط الوطنية اللازمة، وهي الرد الجذري على الانحطاط الفصائلي الميليشياوي لقوى الإسلام السياسي الشيعية والسّنية، فالكائن الفصائلي هو كائن قتل الإنسان والمواطن معاً في داخله بالتوازي مع قتل ضميره الأخلاقي، وبالتالي لا وطن ولا دولة ولا مجتمع ولا شعب من دون استعادة إنسانية السوريين المهدورة على مذابح العقائد والمذاهب المحلويّة.
إن إعادة تأسيس السياسة في سورية على مبدأ الإنسان- المواطن المعرّف بالحرية وليس بالهويّة، صار من المداخل الضرورية لوقف مسار السقوط الأخلاقي والسياسي والمجتمعي المتسارع، في عالم لم يعد يكترث لهول نكبة السوريين.
* كاتب سوري.
الحياة ٣ يوليو/ تموز ٢٠١٧