سوريا.. من خلافة البغدادي إلى خلافة أردوغان – هوزان خداج
لم تغب تركيا عن الحدث السوري منذ بدايته في دعمها لفكرة إسقاط النظام إثر مواجهته العنيفة للمظاهرات الأولى، وفي دعمها اللوجستي للتشكيلات الأولى من الجيش الحر أو الإخوان المسلمين، وفي دعمها للعديد من التيارات الإسلامية المسلحة الصاعدة.
كما لم تغب أحلام استعادة أمجاد إمبراطورية انتهت منذ أكثر من مئة عام أو التوسع التركي لربط تركيا ببلاد الشام، فخارطة جديدة على وشك التنفيذ في الشمال السوري خصوصا في المناطق التي غابت عنها رايات تنظيم داعش لترفع فوقها الرايات التركية مشكّلة خارطة جديدة من النفوذ ومن فرض المتغيّرات بما يناسب سياستها.
منذ العام 2013 اقترحت تركيا والمعارضة السورية إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، لكن هذا المقترح الذي تم تقويضه في ذلك الحين عاد للظهور بمظهر آخر، إذ انتقلت تركيا من إدارة الأزمة إنسانيا واستقبال السوريين على أراضيها كضيوف وتوفير سبل الدعم اللوجستية للثوار عن بعـد، إلى التدخل المباشر وانطلاق عملية درع الفرات في أغسطس من العام 2016، حيث سيطر الجيش التركي والقوات التركمانية والسورية، المدعومة تركيّا، على مناطق عديدة، لتمضي تركيا بخطى حثيثة نحو استكمال تطهير الخمسة آلاف كيلومتر من ريف حلب الشمالي وهي التي تحدّث عنها في مؤتمر صحافي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتفرض واقعا جديدا في المنطقة.
السيطرة التركية في شمال حلب لا تقتصر على الوجود العسكري، واستقطاب عدد كبير إلى صفوف المجموعات المسلحة و“الشرطة الحرة” العاملة تحت قيادتها، وإشراف الأتراك بشكل مباشر على تشكيل هيئات ومجالس عشائرية تواليها، أو تداول العملة التركية والدولار إضافة إلى العملة السورية، وكتابة اللافتات والمطبوعات باللغتين العربية والتركية، إنما باتت تتعداها إلى تكريس “التتريك” كأمر واقع، والذي تجلّى في تنفيذ جملة من الإجراءات عميقة الأثر تؤدي إلى ربط المسارات الاقتصادية والتعليمية والخدمية بالحكومة التركية التي تشرف على تسيير أمور المنطقة بشكل علني وحضور ولاة ومسؤولين أتراك في حفلات تدشين المؤسسات قيد الإنشاء والت ي تعتمد على استثمارات تركية داخل الأراضي السورية وتجار محليـين.
كما تعمل “المجالس المحليّة” بإشراف تركي مباشر على تأمين فرص عمل بشكل دائم لأبناء مناطق درع الفرات، فتأمين الأمن والأعمال، إضافة إلى نهج من الحرية افتقده أهالي المنطقة تحت ظل داعش وقوانينها شكّلت عوامل استقطاب للكثير من المهجّرين لداخل الأراضي التركية.
التتريك في تلك المناطق يتكرّس تباعا، وللمدارس والجامعات دور كبير في تحويل المجتمع نحو واقـع جديد حيث اشتُرِط إضافة اللغة التركية إلى المنهج السوري المعدّل الذي يدرّس في تلك المناطق، وذلك للاعتـراف بالشهادات الصادرة منها والسماح للطلبة بالالتحاق بالجامعات التركية بعد نيل الشهادة الثانوية، ما اضطر دائرة “التربية المحلية للمعارضة” إلى إضافتها منذ سبتمبر الماضي.
كما تم افتتاح عدد كبير من الجامعات والمعاهد مثل “جامعة الشام العالمية” متنـوعة الاختصاصات التي افتتحت في العام 2016 في مـدينة أعـزاز، بالتعاون بين هيئـة التعليم العالي وهيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات التركية، وتحرص هذه الجامعة على تقديم السكن والطعام مجانا للطلاب، علاوة على تقديم معُونات مالية شهريّة، لتستقطب أكبر عدد من الطلاب المنقطعين عن الجامعة وحاملي الشهادات الثانوية من أبناء ريف حلب الشمالي وذلك رغم غياب الاعتراف بشهادتها.
أما جامعة باشاك شهير الخاصة للعلوم العربية والإسلامية، المعروفة بميولها السلفية، فإنها ستباشر عملها خلال الربع الأول من العام القادم في مدينة الباب بعد أن تمّ الاتفاق على تقديم المجلس لقطعة أرض في المدينة، مقابل تعهد الأكاديمية ببناء فرع جديد لها يتضمن تدريس اختصاصات الشريعة الإسلامية، وأصول الدين، والدعوة والإعلام، والاقتصاد الإسلامي، والتربية الإسلامية وغيرها، وذلك بالتعاون مع الحكومة التركية.
تطبيع مناطق من الشمال السوري من حيث الإدارة واللغة وغيرها رافقها بناء مدينة جديدة شمال مدينة الباب في ريف حلب الشرقي نفذتها “هيئة الطوارئ والكوارث التركية- أفاد” تستوعب 80 ألف نسمة، مع تقديم الخدمات من مدارس ومستشفى ومساجد ومحالّ تجارية، لتكون أول مدينة تقيمها في المناطق التي حررتها قوات درع الفرات من تنظيم داعش، وسيتم تخصيصها لعوائل المقاتلين تحت المظلة التركية، وغالبيتهم يرتبط بجماعة الإخوان المسلمين المحظورة في أكثر من دولة عربية وأجنبية.
سوريا التي تحوّلت منذ بداية حربها الاستنزافية ميدانا للحروب المذهبية والقومية والحروب المُقامة لاسترجاع أحلام إمبراطوريات زائلة، باتت غارقة بكل مشاريع الاحتلال وسياسات فرض الأمر الواقع التي تفتت الجغرافيا السورية لتصنع سوريا أخرى ينتجها ركام الحرب.
كاتبة سورية
العرب [ 2017/12/28، العدد: 10854، ص(8)]