“في سجن تدمر كنا نلمحهم من بعيد”.
“في سجن تدمر كنا نلمحهم من بعيد”.
01-05-2018
يتابع وائل السواح إعادة اكتشاف مرحلة السبعينات والثمانينات من تاريخ سوريا، بحثاً عن دور اليسار الجديد والمعارضة السورية في تلك المرحلة، من خلال تجربته الخاصة في ذلك اليسار وفي السجن. في هذه الحلقة، يتأمل النقاش الذي صاحب تحوّل “الحلقات الماركسية” إلى تنظيم سياسي ودور هيثم العودات وفاتح جاموس، وأيضاً ولادة المنظمة الشيوعية العربية وموتها.
مات أحمد جمّول قبل سنوات في الجزائر منفياً، بعيداً من مدينته، السَّلَمية، وبعيداً من دمشق. حين خرجت من السجن في 1991، تحدثنا عبر الهاتف مطولاً. تحمّل هو عبء مكالمة دولية طويلة، ليطمئن على صحتي ومعنوياتي. ثمّ تقطّعت بنا سبل الاتصالات، ولم يكن الإيميل والوسائط الأخرى قد وجدت في بلادنا بعد. سيبدو هذا غريباً بشكل خاص لجيل الثورة السورية، أو بالأخص لشباب الألفية الجديدة. للاتصال ببلد آخر، كان عليك أن تطلب الرقم من عاملة المقسم وتنتظر أحياناً لساعات قبل أن يرن الهاتف وتقول لك عاملة المقسم: “معك باريس” أو “معك الجزائر”. كان توزيع بيان ما حول الديموقراطية أو الحرية أو فساد النظام يتطلّب كتابة، ثمّ طباعة بالآلة الكاتبة على ورق حسّاس خاص، يستخدم من ثَمَّ لطباعة مئات النسخ من البيان. توزيع البيان في زمن بوليسي حيث يوجد في كلّ زاوية مخبر أو دورية أمن، كان مهمّةً صعبة ومثيرة في الوقت عينه. وإلى حدّ ما، كانت العملية تبدو كلعبة القطّ والفأر. كنا ننتشر في أحياء المدينة الفقيرة (مخيّم اليرموك، التقدّم، الطبّالة، وبعض أحياء القصاع) آن تُعَتِّم العين، ننثر البيان، نزرعه في النوافذ أو مداخل البيوت كالأزهار في القصص، نركض إذا دهمنا خطر، إلى حيث نختلط بالجموع المسائية، فنضيع في لجّتها، ثمّ نلتقي في مكان ما: مقهى الكمال، أو خمّارة فريدي إذا كان معنا ثمن زجاجة بيرة، فنروي طرائف ما حصل بيننا، ونضحك، ونحاول خفض الأدرينالين الذي كان قد ارتفع في عروقنا إلى حافته القصوى.
أحمد جمّول عرفني أيضاً إلى رجل يتقّد حيوية وحماسة، إلى بعض الخبث وقدرة على الحركة والتعاطف. فاتح جاموس، مهندس الكهرباء الشاب، القادم إلى دمشق من قرية بُسنادا السريانية الممتدّة على سفح تلة بجوار مدينة اللاذقية، بطبيعة فاتنة وتاريخ يعود خمسة آلاف سنة إلى الوراء. فاتح مهندس الكهرباء الممتلئ حيوية ونشاطاً، سيلعب دوراً محورياً مع رفيقه السابق وخصمه الحالي أصلان عبدالكريم في قيادة رابطة العمل الشيوعي. ويوماً، سمّيت فاتح قلب رابطة العمل وأصلان عقلها المفكر. ولكن فاتح هو من لعب الدور الأهم في تحوّل الحلقات الماركسية إلى تنظيم سياسي. لا يتمتّع فاتح بعمق نظري كرفاقه أحمد حمّول وأصلان عبد الكريم وهيثم منّاع، ولكنه يفوقهم جميعاً قدرة على الحركة والإقناع والتشبيك والانتقال بين الأفكار والمواقع والخيوط. وسواء أحببنا الرجل أم لا، فقد كان “الدينامو” وراء الاجتماعات الموسّعة الثلاثة التي عقدها ممثلون عن الحلقات الماركسية، ليس من دون بعض التحايل وبعض المراوغة، إذ لم يتمّ تمثيل الحلقات وفق وزنها الحقيقي وعدد أعضائها. سيعتقل فاتح خمس عشرة سنة، مثل كل رفاقه في تلك المرحلة، وسيخرج من دون أن تفتر له همّة أو يقرّ له قرار. ولكنه سيلعب دوراً سلبياً برأي الكثير من رفاقه في الثورة السورية، إذ سيقف في موقع أقرب إلى بشّار الأسد منه إلى السوريين. كنّا نسمّي فاتح “أبو علي”، وكان يحبّ ذلك، ويعتبره، كما قال لي ذات مرّة تعبيراً عن مشاغبته ومرجلته. أوّل مرة التقيته كنّا في حديقة عامة في باب توما. جاء بقامته الضئيلة وعينيه البراقتين الذكيتين وابتسامته الخجولة ولكن المطمئنة. أحببت صوته الدافئ وحذره الأمني، وأحسست بألفة كبيرة معه منذ اللحظة الأولى. ولا تزال كلماته كلما ودّعته بعد لقاء قصير في شارع أو حديقة أو موقف باص: “دير بالك على حالك!” وكنت وما زلت أعتقد أنه كان يعني ذلك جيّداً. كان يمتلك عاطفة ودودة لكلّ الرفاق، ولو كان متديناً لصلّى كل يوم ليحمي الله رفاقه. كيف تغيّر فاتح بعد ثورة 2011، وهو الثوري مذ وُلِد، سيظلّ أمراً عصيّاً على الفهم بالنسبة إلي وإلى كثيرين من رفاقه. أيعود ذلك إلى الطائفية؟ ففاتح ولد لأسرة علوية فقيرة في ريف اللاذقية، ولكن الطائفية لم تمنعه من معارضة حافظ الأسد وخسارة خمس عشرة سنة من عمره في سجون الأسد. أيعود ذلك إلى الخوف من الإسلاميين؟ ولكنّ الثورة بدأت مدنية، سلمية، ديموقراطية، والرجل لم يدعمها حتى آنذاك.
عقد الاجتماع الأول قبيل نهاية عام 1974 لتناول القضايا السياسية الرئيسة بعد حرب تشرين، وللإجابة عن سؤال لينين الأساس: ما العمل؟ لم يكن جميع الأعضاء في الحلقات المختلفة مجمعين على ضرورة اللقاء أو ضرورة تطوير واقع الحلقات لما هو أبعد من نقاش وتبادل آراء. وقد توّلدت بين أعضاء الحلقات وجهتا نظر، رأت إحداهما أن الظرف الموضوعي لم ينضج بعد للقيام بعمل منظّم، بسبب عدم وجود طبقة عاملة سورية قادرة على إحداث فرق سياسي في البلاد؛ بينما رأت الأخرى أنه لا بدّ من الارتقاء بظاهرة الحلقات الماركسية كيلا تقع في مستنقع الركود. فاتح جاموس، ومعه رجل عنيد وصبور وذكي هو عبّاس عبّاس، الماركسي العتيق الذي لا يلين، كانا في مقدّمة الداعين إلى نقل الحلقات إلى تنظيم. انتهى الاجتماع بتكليف طالب الطب الذكي والدؤوب هيثم العودات (سنعرفه لاحقاً باسم هيثم منّاع) بكتابة الرؤية الاستراتيجية التي ستقوم عليها الخطوة التالية.
ليس سهلاً أن تُحبّ هيثم العودات، فهو رجل انطوائي، يوحي بأنه لا يثق بمحدّثيه، ولا يفتح لهم قلبه بسهولة. وجهه النحيل وابتسامته القلقة تشعرانك بشيء من النفور وشيء من الحذر منه. ولكنّه شاب دؤوب، نشيط، ومجتهد. يقرأ كثيراً، وله قدرة كبيرة على إعادة إنتاج ما يقرأ. وُلِد لعائلة معروفة بنشاطها السياسي في درعا، وكان والده، يوسف ناصر العودات، محامياً معروفاً وقريباً من حزب البعث الموالي لصدّام حسين، دفع سنوات طويلة من حياته ثمناً لانتمائه السياسي، سجيناً في معتقلات حافظ الأسد. ولا شكّ في أن هيثم الفتى تأثر كثيراً بغياب والده القسري، ما جعله لاحقاً ناشطاً مهمّاً في مجال حقوق الإنسان. ولكنّه كان شديد الحذر من أن يلقى مصير والده، فترك سوريا عام 1978، قبل أن ينهي دراسته في كليّة الطب والتجأ إلى باريس، حيث تنقّل من منظمّات حقوقية شتّى، وكان نائباً لرئيس اللجنة العربية لحقوق الإنسان وأحد أعضاء الفريق المركزي في تقرير التنمية الإنسانية العربية، كما لعب دوراً مهماً في ولادة المحكمة الجنائية الدولية من أجل رواندا والمحكمة الجنائية الدولية الدائمة. وموقف هيثم من الثورة ملتبس جداً، فهو يقف في منطقة وسط بين النظام والمعارضة، ليس دائماً من دون حق، ولكن بعض مواقفه تثير استياء كثر من السوريين، وأحياناً سخريتهم. سيلعب هيثم دوراً كبيراً في حياة الحلقات الماركسية والسنتين الأوليين من تأسيس رابطة العمل الشيوعي. وأهم تأثير له كان مشاركته المهمة، مع أصلان عبد الكريم ومحمد المعمار، في كتابة الخط التأسيس الاستراتيجي للتنظيم العتيد.
وسواء أكنت من المعجبين بظاهرة رابطة العمل الشيوعي أم لا، فقد تعترف بأن هذه العصبة من الثوريين نجحت في تأصيل عملها السياسي على أساس استراتيجي واضح، وهو ما لم يقم به أي تنظيم شيوعي سوري آخر. واستناداً إلى رؤية التنظيم في الانتقال من العام إلى الخاص تسلسلت موضوعات “الخط الاستراتيجي” من لوحة الصراع العالمي، مروراً بالحركة الشيوعية العالمية والمسألة القومية والوحدة العربية ومسألة الأقليات والقضية الفلسطينية والحزب الشيوعي العرب الموحد، إلى الطبقة العاملة السورية والحركة الشيوعية السورية.
في صيف العام التالي (1975)، اجتمع ممثلو الحلقات مرة ثانية، وقرروا ضرورة الانتقال خطوة “إلى الأمام” بإعلان إطار موحّد للحلقات. كان المجتمعون متأثرين باندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في أبريل/ نيسان 1975 بين الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية من جهة، والكتائب اللبنانية وحزب الأحرار والقوى المتحالفة معهما من جهة أخرى. ولسوف تتطور هذه الحرب لاحقاً إلى مسارات مأسوية لم يكن أحد يدركها آنذاك. بيد أن بدايات تلك الحرب بدت لليسار السوري وكأنها الساحة التي ينبغي لكل اليسار العربي أن يخوضها، نسخة، ربّما، من الحرب الأهلية الإسبانية، التي جاء الثوريون من مختلف أرجاء المعمورة ليشاركوا فيها إلى جانب الجمهوريين ضدّ كتائب فرانكو الفاشية. ولاحقاً، سيشارك أعضاء من التنظيم الجديد مع الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية بالسلاح وبالكلمة والدعاية السياسية والتدريب. وكنت شخصياً بينهم، ففي 1979 أمضيت أربعة أشهر أعمل مع جبهة التحرير الفلسطينية، في جريدة الجبهة المركزية وفي تدريب الكوادر في الجنوب.
عززتْ التطوّرات السياسية في لبنان إذاً مواقع التيار الذي كان يريد نقل الحلقات إلى “شكل تنظيمي ثوري أرقى”، وفي مقدّمهم فاتح جاموس وعبّاس عبّاس. واقتُرح اسم “عصبة الثوريين”، في إشارة إلى “العصبة الشيوعية” التي أسسها ماركس وإنغلز ومعهما كارل شابر في لندن 1947، في تذكير بطبيعة الحلقات الماركسية التي كانت تنهل من ماركس أكثر مما نهلت من لينين، وفي ضمير معظم المؤسسين رفضهم للفكرة اللينينية التي ترى في الحزب جريدة ودزينة من المحترفين الثوريين.
وفي الصيف ذاته الذي عقد فيها اللقاء الثاني الموسع للحلقات الماركسية، وقع حدث سيلعب دوراً كبيراً في تاريخ اليسار السوري: إعدام ناشطي “المنظمة الشيوعية العربية” في 2 أغسطس/ آب 1975. ترافقت مسيرة المنظمّة الشيوعية العربية مع الحلقات الماركسية وتقاطعت أحياناً. أسست المنظمّة ثلّة من الشباب، سوريين وفلسطينيين، في العشرينات من عمرهم، تزعّمهم شاب فلسطيني نقي السريرة، يشتعل حماسة وغضباً وقهراً، ويملك كاريزما عالية وقدرة على التنظيم والإقناع– علي الغضبان. وبينهم أيضاً الأَخَوَان غياث وعماد شيحا والفارس النبيل محمد فارس مراد. افترق شباب المنظمّة عن شباب الحلقات في فورتهم العاطفية ونقمتهم، واقتنعوا بأن التغيير لا يمكن أن يأتي إلا بالعنف الثوري. وكان هدفهم ضرب المصالح الأميركية في المنطقة، وفي خلدهم كان يدور نصر قريب وثورة وشيكة. قاموا بوضع متفجرة في جناح الولايات المتحدة في معرض دمشق الدولي، ثم كرروا الأمر نفسه في شركة NCR الأميركية في قلب دمشق، على بعد مئات الأمتار من محافظة دمشق والبرلمان وقيادة الأركان. أثناء العملية الثانية، صادف وجود حارس ليلي في مكان التفجير، ولم يستطع الشباب تنبيهه أو إنقاذه، فقضى قتيلاً. وحتّى بعد ثلاثين عاماً، ستظل صورة هذا الرجل وأسرته تُثْقِل على قلب من لم يُعدَم من أعضاء المنظمة.
كانت فترة عصيبة على النظام السوري والأنظمة الأخرى في المنطقة، وتعاونت أنظمة المخابرات في شرق المتوسط للقضاء على أفراد التنظيم بشراسة منقطعة النظير. وقبِض على عدد منهم في لبنان، بينهم علي الغضبان، الذي اختطف بمساعدة فصيل فلسطيني موال للنظام السوري. وتمّت مداهمة مسكن محمد شقير، الذي عُذِّب حتى الموت، فاعترف قبل أن يلفظ نفسه الأخير على رفاقه في المجموعة، واعتقل الجميع خلال ساعات، وصدرت أحكام سريعة قاسية بعد محاكمة كاريكاتورية في محكمة أمن الدولة، قضت بإعدام خمسة من أعضاء المنظّمة (أربعة فلسطينيين وسوري)– علي الغضبان، غياث شيحا، وليد عدوان، محمد خير نايف، وعلي الحوراني، كما قضت بأحكام بالسجن المؤبّد أو لمدّة خمس عشرة سنة على عشرة آخرين، بينهم جميلة البطش، وفارس مراد، الذي سيخرج من السجن معطوب الصحّة فيموت بعد فترة قصيرة، وعماد شيحا، شقيق غياث، الذي سيخرج من السجن روائياً مرموقاً. صدرت الأحكام في 29 يوليو/ تموز 1975، ونفذّت بعد أقلّ من أربعة أيام، حاول خلالها بعض حلفاء النظام من القوى “الوطنية والتقدمية” السورية واللبنانية والفلسطينية التدخل لتخفيف الأحكام، بيد أن الأسد الأب لم يفاجئ أحداً حين رفض الوساطة. وفي فجر يوم السبت 2 آب 1975، نصبت في قلب دمشق خمس مشانق، ولكن الشهداء لم يصلوا أبداً إلى مكان تنفيذ الحكم، ففي آخر لحظة، قرر النظام الذي خشي من عاقبة الإعدام العلني، تنفيذ الجريمة في مكان ما تحت الأرض، ورفض أن يسلّم الجثامين لذويهم، وما زالت هذه الأجساد الخمسة مطمورة في مكان ما لا يعرفه أحد.
في سجن تدمر، كنا نلمحهم من بعيد. لم يكن مسموحاً لنا أبداً الاقتراب منهم أو الحديث معهم أو التلويح والابتسام لهم. أمضوا ثلاثين سنة تقريباً ينتقلون من سجن إلى آخر، في عزلة عن كل آدمي، حتى نقلوا أخيراً إلى سجن صيدنايا قبل الإفراج عنهم.
في النصف الثاني من سبعينات القرن النائم، كان رموز المنظمّة الشيوعية العربية يشعلون خيال وضمير اليسار السوري الجديد. لم تخلِّف المنظّمة إرثاً نظرياً ولم تعش طويلاً لتخلِّف إرثاً نضالياً، ولكن مناضلي المنظّمة كانوا أيقونات عاشت في قلبنا طويلاً. وحين التقيت بعد أشهر من إعدام الشباب، في ربيع 1976، أميرة شيحا، شقيقة غياث وعماد، كانت بالنسبة إلي وإلى جميع من حولها تقريباً أيقونة حقيقية، وعلى رغم جمالها الصاعق وفتنتها، لم يتجرأ أي منّا على مغازلتها أو التقرّب منها، ليكون أبعد قليلاً من صديق أو رفيق.
وحين التقيت فارس مراد، بعد سبعة وعشرين صيفاً أمضاها في سجون النظام، بدا لي شبه آدمي، بظهر منحن حتى تكاد قامته تنتصف، ولكن بتماسك نفسي وسياسي وأخلاقي عنيد. قال لي، وكنا في بيته قرب الفحّامة بدمشق: “لم يكن العمل المسلّح هدفاً بذاته. كان وسيلة لكي نُسمع صوتنا، لأننا لم نكن نملك إمكانات أخرى لذلك. وكان الأساس في عملنا العسكري أن يكون مجرد رافعة إعلامية لا يستهدف بشراً على الإطلاق”. ولذلك، كان على فارس وعماد وكل الآخرين أن يعيشوا مع مقتل ذلك الحارس الليلي البائس مدة ثلاثين عاماً. عام 2009، رحل فارس مراد عن عالمنا، وكان وداعه مناسبة لتلاقي كل أطياف اليسار السوري. فارس مراد وحده استطاع أن يجمع هذا اليسار الذي لا يلتقي على شيء عادة.
بعد عامين من لقائي فارس مراد، أفرج عن عماد شيحا، وكان أقدم معتقل سياسي سوري معروف. أقول “معروفاً” لأن ثمّة في السجون السورية أشخاصاً مجهولين لا نعرفهم، اختفوا من بيوتهم أو مكاتبهم أو مقاهيهم، ولم نعد نعرف عنهم شيئاً. عماد كان ذا نكهة مختلفة عن فارس: أقل عاطفة وأكثر عقلانية. حين زرته في بيت أهله في ركن الدين، أول مرة حاولت أن أبحث عن آثار الأعوام الثلاثين التي أمضاها في السجون، ففشلت. كان وسيماً، لطيفاً، دمثاً، وصحيحاً. قال لي: “لا يمكن أن نعيش في كابوس الماضي إلى ما لا نهاية، يجب أن نستيقظ منه”. لم يحبّ أن يتحدّث عن تجربته التي كلّفته ثلاثين عاماً من حياته. حين اعتقل كان في العشرين، وحين أطلق سراحه كان في الخمسين. مع الصبر، تعلّم المحافظة على لياقته وصفاء ذهنه، وتعلّم أيضاً الإنكليزية، وأتقنها، وحين خرج بات مترجماً مرموقاً، ولكنه أيضاً، ويا للدهشة، غدا روائياً محترفاً. نشر ثلاث روايات، كتبها كلها في السجن، “موت مشتهى”، “غبار الطلع”، “بقايا من زمن بابل”. ولكن– ويا للمفارقة أيضاً– لم تكن أي منها تحكي عن عالم السجن.
لا يذكر معظم السوريين اليوم مناضلي المنظّمة الشيوعية العربية، ولكنهم يعرفون اللوحة الفاتنة التي رسمها يوسف عَبَدلكي بعنوان “دمشق، سبت الدم”، التي تؤرخ لليوم الذي أعدم فيه الأعضاء الخمسة. كما يذكرون على الأرجح القصيدة الفاتنة لنزيه أبو عفش عن شهداء المنظمة، بعنوان “الله قريب من قلبي”:
اليأس قريب من قلبي
ورفاقي يتدلّون عراة كحبال القنّب
خمس نوافذ أغلقت الآن
فنامي أيتها الوردة
خمسة شواهد تنتصب الآن على نحو دموي
خمس زنابق تهوي في الليل ولا تصل الأرض
فسلاماً أيّتها الوردة
خمسة أوتاد تتلكّأ في منتصف القلب
سلاماً لي
وسلاماً لبلادي
وسلاماً لملايين الأعشاش المهجورة في منتصف القلب..
سلاماً للوردة.