الجزيرة السورية، أيضاً وأيضاً.. 18-02-2019
” من أجل أن نتحد، وكيما نتحد، يجب تحديد التخوم بيننا بدقة” لينين.
نسارع إلى القول: ليس لدينا أية أوهام حول إمكانية تحالف المعارضتين الكردية والعربية*, لأن هذا يندرج في خانة المحال، كما نستبعد الآن وحتى إشعار آخر الاتفاق أو التعاون أو التنسيق، وجل ما نطمح إليه اليوم هو قيام شكل من أشكال التّفهم بينهما، إذ لطالما كان التّفهم عبر التاريخ الدرجة الأولى على سلم التواصل على الأصعدة كافة بدءاً بالفرد وانتهاءً بالإنسانية جمعاء مروراً بالأمم والديانات والأحزاب والأقوام والفئات الاجتماعية.
وحتى يكون هذا التّفهم مؤسساً وقادرا على دفع التواصل إلى الامام على الأقل إلى درجة الحوار يجب الاعتراف الصريح والمستقيم بالقضايا الخلافية بين المعارضتين**, ويأتي على رأس هذه القضايا طبيعة السياق النضالي لكليهما، ومسألة العدو الرئيس دولياً وإقليمياً ومحلياً جنباً إلى جنب مع مسألة الحلفاء على الصعد السابقة ذاتها، وبنية كل معارضة وهيكليتها الداخلية وممارستها الفعلية وطبيعة الصراع القائم، والموقف الفعلي من السلطة السورية، وهياكل سيطرتها على الأرض، والموقف من الانتفاضة الشعبية- أو على الأقل ذلك الجزء الكبير الذي انتفض من الشعب السوري- إلى آخر ما هنالك من قضايا.
ففي ما يتعلق بالسياق النضالي تنطلق المعارضة السياسية العربية السورية- بالتعريف المذكور أدناه- من إنهاء الاستبداد السياسي، وإحلال نظام مدني ديمقراطي محله، في حين ينطلق السياق النضالي للمعارضة الكردية السورية– بالتعريف المذكور أدناه- من متلازمة الشعارين وهما الحقوق القومية المشروعة للكرد ومن إصلاحات بنيوية في بنية النظام بغض النظر عما تقوله المعارضة المذكورة من أنها ليست قومية، لأن كل فعل تفعله ينضح بعكس ما تقول، وهي في الأصل فرع من أصل كردي هو حزب العمال الكردستاني، الذي هو على تنافس شديد مع الأحزاب الكردية- وبخاصة حزب البرزاني– على الساحة القومية الكردية، وفي أماكن تواجد الكرد في العالم من السويد حتي طهران مروراً بالطبع بكردستان تركيا وسوريا والعراق وإيران، ومن الممكن والحال هذه أن تنكفئ المعارضة المذكورة إلى الحقوق القومية المشروعة في حال بدا أن تحقيق المتلازمة غير ممكن، وعلى هذه القاعدة سعت هذه المعارضة منذ اليوم الأول لوجودها المستقل إلى مراكمة أوراق القوة في يدها بانتهازية أنانية واضحة– ولكنها مفهومة- غير آبهة بالثورة أو الانتفاضة- سمها ما شئت- إن لم نقل أكثر من ذلك بمعنى أنها كانت فعلياً ضد الانتفاضة أكثر مما كانت ضد النظام.
في حين تمحورت المعارضة العربية السياسية كلياً حول المهمة المركزية، مهمة إنهاء الاستبداد بغض النظر عن البدائل الممكنة أو التطورات والتغيرات الهائلة التي دخلت على الخندق المضاد للسلطة وحلفائها، وهذا أيضاً واضح ومفهوم. وعلى صعيد العدو الإقليمي الرئيس فإن المعارضة الكردية نظرت إلى تركيا بوصفها كذلك، وبخاصة بعد احتلال تركيا لعفرين وهذا أيضاً واضح ومفهوم، فالمعارضة المذكورة فرع في الأصل من الرأس القائم في جبل قنديل، وهو الأمر الذي لايمكن إنكاره أو الالتفاف عليه، فالقائد الفعلي للمعارضة المذكورة هو هذا الجبل، وهذا واضح ومفهوم أيضاً، في حين كان العدو الإقليمي الرئيس للمعارضة العربية إيران وأدواتها وميلشياتها وبخاصة حزب الله اللبناني، بينما نظرت إلى تركيا بوصفها الحليف الأساس على غير صعيد، وحتى في حال وجود فئة من هذه المعارضة تنظر إلى تركيا بوصفها عدواً فإن ثمة فرق هائل بين هذه العداوة وتلك التركية- الكردية وبخاصة لأن الترك والحكومة الراهنة بالتحديد تنظر إلى هذا الصراع بوصفه صراعاً وجوديا الأمر الذي يجبر الكرد إلى حد كبير على النظر إليه كذلك، وعندئذ فعلى إمكانية تقديم التنازلات السياسية السلام، في حين أن الأمر فيما يتعلق بالمعارضة العربية لا يمت بأية صلة إلى هذا المنظار، وفي كل الأحوال إن ما جئنا عليه هنا واضح ومفهوم أيضاً.
وعلى الصعيد الدولي والإقليمي والمحلي أيضاً كان حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري متموضعاً إلى حد ملموس في الصف نفسه الذي تتموضع فيه السلطة السورية، في حين كانت المعارضة السياسية العربية في الصف الآخر المضاد، وقد استمر هذا الوضع إلى هجوم داعش في الجزيرة، وبخاصة على كوباني، حيث تموضعت المعارضة الكردية في صف التحالف الدولي وعلى رأسه أمريكا ومع شعار أولوية محاربة داعش، دون أن تقطع الخيوط أبداً مع الصف السابق، وهذا أيضاً واضح ومفهوم، في حين رفضت المعارضة السياسية العربية والمسلحة الإسلامية وغير الإسلامية أولوية محاربة داعش، وبقيت علاقتها مع هذا التحالف في الجزيرة وسوريا بعامة موضع التباس حتى بدأت التناقضات بين تركيا وهذا التحالف تكبر. وعند هذا الحد زادت المعارضة المذكورة من تموضعها في صف الترك ولاتزال.
ليس هذا فحسب بل إن العدو المحلي الرئيس للمعارضة الكردية هي الفصائل السياسية والعسكرية الإسلامية، بدءاً من داعش وانتهاءً بأي فصيل مروراً بالطبع بالنصرة، والمعارضة هذه على استعداد للقتال مع الروس وإيران والسلطة في إدلب كما كانت كذلك في عفرين، في حين لاتزال المعارضة العربية المتموضعة مع الترك ذات الطابع الشعبوي تعلق الآمال على المعارضة الإسلامية السياسية والعسكرية، وعند هذا الحد فإن القول إن المعارضة العربية رهينة في يد الترك والإسلاميين صحيح إلى حد كبير مثلما هو صحيح أيضا القول إن المعارضة الكردية رهينة بيد جبل قنديل، كما هو صحيح أن هذه المعارضة الأخيرة ممالئة إلى حد كبير لخندق السلطة وحلفائها.
أما فيما يتعلق ببنية المعارضة وهياكل السيطرة، فالأعمى هو فقط من لا يريد أن يرى الطابع الاستبدادي للمعارضة الكردية ليس في الجزيرة فقط، بل حتى عندما كانت في عفرين بحيث يكون ما عداها من الكرد والعرب والسريان والأشوريين والتركمان مجرد ديكورات تماماً كما هو الحال في جبهة النظام، والأمر نفسه إذا اعتبرنا الفصائل الإسلامية العسكرية بمثابة قاعدة للمعارضة العربية السياسية أو حتى في حال لم تكن كذلك بل هي أسوأ لأنها تضيف للاستبداد السياسي الاستبدادين الديني والاجتماعي.
وفي كل الأحوال هذا ليس بمستغرب فالاستبداد إياه ينبع من طبيعة هذه القوى ومن بنيتها الداخلية والفكرية، وهو المنبع الذي تفيض منه أشكال الاستبداد الخارجي الأخرى، وهذا كله يجب أن يكون واضحاً لكل ذي عين، حتى لو كان مشوش العقل، وهو ما يُعقّد إلى الحد الأقصى تفعيل مبدأ المشاركة.
وأما فيما يتعلق بالموقف من طبيعة الصراع القائم ومن السلطة الطغمة فإننا قد أتينا على شيء منه في ثنايا ما سبق، ومع ذلك يمكن الاستئناس بطبيعة القوى التي تحضر مؤتمرات عين عيسى في النقطتين المذكورتين، ولا يحتاج الأمر إلى التعب كي نجد أنهم من يعتبر تركيا والإسلام السياسي العدو الرئيس وليس السلطة الطغمة، وهذا صحيح كما هو صحيح أن PYD كان كذلك في الأصل وهو باق كذلك وسيبقى, لا بل إن بعض الأطراف التي تواجدت في عين عيسى والتي ترى أن العدو الرئيس للشعوب العربية بما فيها الشعب السوري هي أمريكا، ومع ذلك كانت قادرة على الدخول في حوار في عين عيسى مع سلطة الأمر الواقع ومع غيرها بهدف التحالف مع الحليف الداخلي الذي هو PYD لهذه الأمريكا، وعند هذا الحد من حقنا أن نقول: إن ما ذكرناه أعلاه عن الترك والإسلام السياسي والعسكري لم يعد بحاجة إلى برهان وهذا أيضاً واضح ومفهوم، ومع ذلك يجب بذل الجهد والتخلي كلياً عن الاتهامات التخوينية وعن بعض الخرافات الكاذبة التي ترددها المعارضة العربية على قاعدة الشوفينية الحمقاء سواءً أكانت فارسية أم تركية أم عربية، ومن هذه الخرافات الحديث عن التهجير الجماعي القسر ، والتطهير العرقي، والقتل على الهوية.. إلخ وهذا غير صحيح أبداً، وكل ما في الأمر هو طغيان الاستبداد السياسي ليس إلا وهو كافٍ بحد ذاته لتوليد المخاطر الحقيقية على العرب والكرد وسائر القوميات وعلى الأرض والوطن والنسيج الاجتماعي لكل مكون على حدة وبين المكونات مجتمعة، وأياً يكن الأمر بقي أن نقول: إن المطالبة المستمرة لسلطة الأمر الواقع في الجزيرة بالانفتاح السياسي وتفعيل المشاركة الفعلية، وتحقيق الحكم المحلي الديمقراطي له أكبر دليل وفاضح للأكاذيب السابقة، كما هو دليل على الاختلاف الحقيقي بين سلطة الأمر الواقع في الجزيرة وتلك السلطات التي عرفناها لدى الإسلام السياسي والعسكري في المناطق الأخرى، وهو ما يسمح لنا بإعادة طرح ما طرحناه في الافتتاحية السابقة وهو الدخول فوراً بحوار عميق وجهاً لوجه بين المعارضتين دون توقع نتائج سريعة، حوار يقوم على قاعدة التّفهم والصدق وحسن النية والرغبة في تحقيق نتائج فعلية أو على الأقل الأمل بذلك, حوار يمكنه أن يكون فيزيائياً ويمكنه أن يجري على وسائل التواصل الإعلامي المعروفة لنا جميعاً.
ونجرؤ على القول: ينبغي العودة غير مرة في الافتتاحيات القادمة إلى هذه القضايا أو بعضها أو غيرها وبخاصة فيما يتعلق بالوضع الراهن في الجزيرة وإدلب وسوريا بشكل عام لأن الأوضاع في هاتين المنطقتين من الممكن أن تكون مقدمة لتقرير مستقبل سوريا الأمر الذي يلزمنا بإعادة النقاش وبالتفصيل في كل هذه القضايا اليوم وفي سياقها التاريخي.
***
هوامش:
* نقصد بالمعارضة الكردية في سياق هذا المقال الطرف المسيطر على الأرض PYD ولواحقه ومؤسساته أي سلطة الأمر الواقع وليس المعارضة الكردية كلها على اختلاف مواقفها، ونقصد بالمعارضة العربية في سياق هذا المقال المعارضة الرسمية المعترف بها وهي الائتلاف وهيئة التفاوض لواحقهما ومؤسساتهما وليس المعارضة العربية على اختلاف موافقها.
** يقول ماركس: “ليس المهم ما يقوله المرء عن نفسه، المهم ما يفعله” وهذا ينطبق على الجماعات والأحزاب وعلى هذا الأساس سوف نتعامل مع هاتين المعارضتين.
تيار مواطنة
المكتب الإعلامي 18-02-2019