اللجنة الدستورية – مرة أخرى
لم يكن الاتفاق على اللجنة الدستورية مفاجئاً إلا لأولئك الذين لم ينظروا وجهاً لوجه إلى الوقائع التي توالدت من بعضها خلال السنوات الثلاث المنصرمة، بحيث يصح القول: إن هذا الاتفاق هو المآل المنطقي والعملي لتعقيدات الوضع السوري، ولكل ما جرى بعد التدخل الروسي في 30 أيلول 2015، والانعطاف التركي في النصف الثاني من عام 2016 وبخاصة بعد انهيار جبهة حلب في كانون الأول من العام نفسه، سواء أكان ذلك نتيجة لتفاهم تركي/ روسي، أم كان هذا التفاهم لاحقا ً له.
والكل يعلم ماذا حصل بعد ذلك، لقد أخذت تركيا الفصائل العسكرية من أنفها إلى أستانة، وأجبرت المعارضة السياسية الرافضة على التراجع بالتقسيط للوصول بها إلى ما وصلت إليه في نهاية المطاف.
ومادام الأمر كذلك فإن الاعتراف الصريح والعلني ضروري بأن أستانة وسوتشي ومناطق خفض التصعيد ووضع إدلب واللجنة الدستورية هي من الناحية الجوهرية تعد تعبيراً عن الإرادة الروسية الحازمة في تجاوز الأمم المتحدة وقراراتها فعلياً مع الاستمرار شكلياً بالاعتراف بها، ونستطيع القول: إن اللجنة الدستورية هي الخطوة الراهنة في المسلسل الروسي الطويل، وتعدُّ بدرجة أقل بكثير تعبيراً عن سائر أطراف أستانة، ولذلك فإننا نرجح أن الجميع عدا الروس (إيران ، تركيا، السلطة الطغمة، المعارضة، الاتحاد الأوربي وحتى أمريكا والأمم المتحدة) قبلوا هذه اللجنة على مضض أو بوصفها في ظل الوضع الراهن إمكانية نحو الحل مهما تكن محدودة.
ومع ذلك وقبله وبعده فإن هذه اللجنة في المحصلة الأخيرة جاءت تعبيراً عن التفاهم الروسي- التركي، وبخاصة بعد أن عجزت تركيا عن تنفيذ مخططها الأول في سوريا (إسقاط السلطة وتطويب الوضع للإسلام السياسي والعسكري).
ومادام الحال كذلك، فإن المرء ليس بحاجة إلى الكثير من التدقيق ليرى أن المعارضة الرسمية – في جسمها الرئيس ـ كانت هي الأخرى تتبع المسار التركي بشكل عام منذ الشهور الأولى وحتى اليوم، ومع بعض الاختلافات والتردد العابر، بحيث لم يكن من شأن ذلك تغيير المسار أو انتهاج مسار مستقل فعلاَ، ولو نسبياً حتى مع الاستناد إلى الظهير التركي.
ولأن الأمر كذلك وللتعقيدات الحقيقية للوضع في سوريا أصلًا، وفي الوقت الراهن، والضعف الواضح للمعارضة، ولارتهانها الخاطئ لتركيا، ولانصرافها الجزئي على الأقل عما يمكن وصفه بعناصر قوة نسبية يمكن استثمارها، ولطبيعة الموقف الدولي بشكل عام بما في ذلك موقف الأمم المتحدة وممثليها في سوريا، نقول: لهذه الأسباب بدت اللجنة الدستورية إلى حد كبير كما لو أنها ممر إجباري ينبغي عبوره أو عدم معاندته على الأقل.
والآن إذا صح ما ذكرناه فإن المعارضة -وتيار مواطنة منها- ليست بحاجة أبدا إلى تجميل وجه هذه اللجنة بأي شكل من الأشكال، بل إن الكثير من وجوه القبح التي ركزت عليها فئات من المعارضة والشعب السوري صحيحة تماماً، كما أنها أي المعارضة ليست بحاجة أبدا للاختباء وراء ذرائع باهتة أو حجج متهافتة كاعتبار اللجنة شكلاً من أشكال النصر الجزئي لتسويغ الموافقة، ويكفي القول بكل بساطة : إننا وجدنا أنفسنا هنا مرغمين بفعل كل الظروف السلبية التي كنا جزءاً منها ومن صانعيها، والانتقال مما سبق إلى مكان آخر وممارسة أخرى بغيةَ التخفيف بقدر الإمكان من النتائج السلبية الواقعة والمتوقعة ، ومن أجل الإقلاع من جديد في هذه المرة باستراتيجية صحيحة قدر الإمكان، والتي نعتقد أن بعض عناصرها يمكن أن تتجسد بالشكل التالي:
الذهاب إلى العمل بشكل جدي من أجل دستور سوري يستحق اسمه حتى لو بقي حبراً على ورق، ونقول بهذا الصدد: إنه حتى لو تم الوصول إلى أرقى دستور ممكن وفي فترة زمنية قصيرة -وهذا لن يحصل بالتأكيد- فإنه أي الدستور على ضرورته القصوى لن يكون من شأنه أن يوضع موضع التنفيذ مادام العالم على ما هو عليه، ومادامت المعارضة على ضعفها ومادام النظام كما هو، وبخاصة مادامت ثلاثية الوضع في سوريا (المؤسسة العسكرية، والمؤسسة الأمنية، والعمق الطائفي للسلطة الطغمة على حالها) و من العسير توقع حدوث تغيير بنيوي في هذه الثلاثية في المستقبل المنظور.
وعليه فإن الجهد الذي ينبغي على المعارضة أن توظفه في هذا المجال أي مجال العمل في الدستور لا يعدو أن يكون جزءاً صغيراً من جهدها العام.
.2- الاستمرار في الضغط الحقوقي القانوني الذي تقوم به مجموعات من الحقوقيين والناشطين السياسيين في حقل توثيق الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها السلطة البهيمية في سوريا، وعلى الرغم من الأهمية المعنوية الرفيعة لهذا الجهد فإنه على الصعيد العملي لا يعدو أن يكون عملاً للمستقبل أكثر منه للحاضر، والجهد الذي يجب أن يصرف في هذا الحقل أيضا ينبغي أن يتناسب مع هذه الثمرة المذكورة والمتوقعة معنوياً وعملياً دون تهويل ومبالغة.
يبقى أن الجهد الرئيس لكل الأطراف التي تعتبر نفسها معارضة في الداخل والخارج على حد سواء، بغض النظر عن ارتفاع السقف أو انخفاضه يجب أن ينصرف هذه المرة إلى تثمير عناصر القوة الفعلية أو الممكنة في كل الحقول باتجاه الهدف الرئيس الذي هو الحل السياسي والذي تشكل هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية مركز ثقله.
وفي هذه الحال بوسعنا القول: إن عناصر قوة المعارضة تكمن في:
القرارات الدولية بدءاً من بيان جنيف حزيران 2012 وانتهاء بالقرار 2254 كانون الأول 2015، بل إن هناك بعض النقاط التي اُعتبرت خارج التفاوض وهي النقاط 12و13 و14 والمتعلقة بالمعتقلين والمحاصرين ينبغي أيضا العمل عليها واستثمارها.
بل حتى هنالك في ميادين أخرى عناصر قوة من مثل (النقاط 12) التي ضمنت في بيانات الأمم المتحدة, بما في ذلك ضرورة مثولها في عمل اللجنة الدستورية.
العمل بشكل مباشر مع الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة ومن يقف معهما من الدول والمنظمات للتمسك الحازم بالحل السياسي ومركزه (هيئة الحكم الانتقالي) لقطع الطريق على مناورات روسيا وإيران والسلطة الطغمة لتجاوز القرارات عبر أطروحة التطبيع وإعادة الإعمار والعودة إلى الجامعة العربية والعودة الطوعية للاجئين و…الخ.
والموقف المذكور أعلاه هو عنصر قوة، نعتقد أن المعارضة الرسمية المرتهنة لتركيا لن تقوم باستثماره على الشكل الصحيح، ويكفي هنا النظر إلى الموقف الأمريكي والأوربي في الأمم المتحدة وخارجها فيما يتعلق بهذه المسائل بما في ذلك أخيراً شروط فرنسا الأربعة لإجراء الانتخابات القادمة.
تشكل الجزيرة السورية عنصر قوة في مواجهة السلطة لم يتم استثمارها هي الأخرى، ولكن ولأننا ندعي الواقعية فإننا نعتقد أن المعارضة المذكورة هنا وخاصة تلك المرتهنة لتركيا، عاجزة عن استثمار هذه النقطة بسبب ذلك الارتهان ولعدائها المجنون وغير المسوغ على الإطلاق لسلطة الأمر الواقع في الجزيرة لأسباب معروفة للجميع وهي لا تعدو أن تكون ذرائع للاختباء وراءها أكثر مما هي أسباب حقيقية، ومع ذلك ينبغي الضغط لاستثمار هذه المنطقة على الطرفين سلطة الأمر الواقع و المعارضة الرسمية وبشكل خاص على الأخيرة، وحتى يكون ذلك ممكناً -ولا نقول محققاً- فإن الخطوة الأولى هي إنهاء الارتهان لتركيا والنظر بعقلانية وواقعية للجزيرة السورية وسلطة الأمر الواقع فيها على الرغم من كل مساوئها، ولكن مع كامل الأسف فإن الأمور لا تسير بهذا الاتجاه، فالعداء الحدي القائم لا يتراجع، بل يُخشى أن يتفاقم مع التهديد التركي الجدي الأخير باقتحام الجزيرة السورية.
التركيز على استنهاض الميدان في سوريا والدعوة دون كلل أو ملل لأن يعبّر الشعب السوري عن نفسه بالأشكال المختلفة التي عرفتها البشرية، بدءاً من مواقع وجوده في الداخل والخارج والمخيمات ودول الجوار ومناطق سيطرة السلطة الطغمة وتركيا والمناطق المسيطر عليها تركياً وفصائلها وإدلب والجزيرة إلخ ، مهما تكن البداية متواضعة جداً وذات طابع فئوي أو نخبوي أو على شكل استبيانات رأي في القضايا المطروحة أو أي شكل من أشكال التجمع وصولاً في نهاية المطاف إلى التظاهر واستعادة الحراك الميداني الذي يشكل الرافعة الحقيقية لنمو ونهوض وتعاظم الحامل الشعبي فهو الضمانة في نهاية المطاف لتحقيق الأهداف الحقيقية أو على الأقل الحد الأدنى من تلك الأهداف.
وغير بعيد عن ذلك فإن تشجيع العمل المدني بمسمياته وحقوله كافة يشكل رافداً عملياً حقيقاً باتجاه تحقيق تلك الأهداف وتجاوز صيغة انتظار الفرج بل إشعال شمعة في ظلمة الدرب وقطع خطوة عبر ذلك خير بكثير من هذا الانتظار.
ومن أجل ذلك كله أو بعضه لابد من جبهة ديمقراطية عريضة، تشكل رافعة من أجل الحاضر والمستقبل، كما تشكل أداة الضغط الوطنية الرئيسة على كل الأطراف الخارجية والإقليمية والمحلية أيا تكن قوتها وممارساتها، والانتقال الفعلي من بازار المبادرات إلى التجسيد الحقيقي للضرورة التاريخية الراهنة للتغيير عبر استراتيجية سياسية صائبة، تقوم على الوقائع العنيدة والبعد كل البعد عن الإقصاء والتهميش أو التخوين والاتهامات المبتذلة وموضوعات الانشاء اللفظية المكرورة والمفارقة للواقع حد العبث.
تيار مواطنة – المكتب الاعلامي
٧-١٠-٢٠١٩