تركيا أمام تحديات جديدة
أثارت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن إمكانية إرسال جنود أتراك إلى ليبيا، وبشأن احتمال الرد على العقوبات الأمريكية، في حال دخولها مرحلة التطبيق، بإغلاق قاعدتي إنجرلك وكورجك العسكريتين، مخاوف كبيرة في الرأي العام التركي. فالتصريحان ينذران بدخول تركيا في صراعات خارجية جديدة تضاف إلى تلك الموجودة مسبقاً، وإلى المشكلات والتحديات الداخلية التي تعني حياة كل مواطن، كالأزمة الاقتصادية والانشقاقات السياسية عن الحزب الحاكم وغيرها الكثير من المشكلات التي تحتاج إلى معالجات سريعة.
فبالنسبة لليبيا التي تعيش صراعاً داخلياً بين حكومتي السراج وحفتر، وصراعات دموية بين فصائل إسلامية متناحرة، والصراع الإقليمي الذي يخاض فيها بواسطة حروب الوكالة، من شأن التدخل العسكري التركي ـ إذا حدث ـ أن يزيد الأمور تعقيداً في ليبيا ويزيد تورط تركيا في صراعات المحاور الإقليمية وانعكاساتها المحتملة على الداخل التركي. صحيح أن الموقف التركي يستند إلى شرعية أممية من خلال اتفاق التعاون الموقع بين أنقرة وحكومة طرابلس الشرعية، لكن الحكومة المذكورة هي الطرف الأضعف في الصراع الداخلي من حيث توازن القوى بينها وبين قوات حفتر المدعومة من المحور السعودي ـ المصري ـ الإماراتي من جهة، ومن موسكو من جهة ثانية، من غير أن تكون واشنطن ضدها. كأننا، هنا أيضاً، أمام حالة تشبه حالة نظام بشار الكيماوي في دمشق الذي يتمتع بدعم ثابت من روسيا وإيران، من غير أن يعني ذلك عداء القوى الدولية والإقليمية الأخرى له. يتمتع حفتر إذن بموقع سياسي راجح من حيث الدعم الخارجي على رغم افتقاده إلى الشرعية الأممية، وذلك من خلال انخراطه في محاربة المجموعات الإسلامية المسلحة، بما يلبي أجندات دولية وإقليمية وازنة.
كان الدعم التركي لحكومة السراج، إلى الآن، في مستوى لا يلفت الأنظار ولا يستثير ردود فعل سياسية من الدول المنخرطة، بشكل أو آخر، في الصراع الليبي. أما الآن فقد بات التدخل العسكري مطروحاً على الطاولة، ولو على مستوى التصريحات التي يمكن أن تكون وظيفتها مقتصرة على إعلان القدرة على التدخل وشرعيته، وما ينتج عن ذلك من حسبان الحساب للدور التركي في أي ترتيبات سياسية. قد يمنح هذا الوضع الجديد أنقرة ورقة ضغط على المحور الذي تقوده السعودية، ليس في ليبيا فقط، بل في مجمل الصراعات الإقليمية، لكنه ينطوي على المخاطر أيضاً مثله مثل أي ورقة ضغط قد تكون سبباً للربح أو للخسارة وفقاً لظروف تكون خارج إرادة صاحبها.
أما إذا اندفعت القيادة التركية إلى تحويل التصريحات إلى واقع على الأرض، من خلال إرسال قوات عسكرية، مهما كان حجمها محدوداً، بناء على طلب حكومة السراج، فسوف تكون تركيا أثبتت أنها لاعب إقليمي لا يمكن تجاهله، مثلها مثل إيران. لكن وجود تلك القوات في ليبيا سيعرضها إلى مخاطر أمنية مباشرة لا يمكن التنبؤ بعواقبها. من هنا منشأ المخاوف من مغامرة مماثلة لا يمكن ضمان الفوز فيها. أما بشأن تهديدات الرئيس التركي بإغلاق القاعدتين العسكريتين رداً على العقوبات الأمريكية القادمة، فهي مقامرة شديدة الخطورة من شأنها وضع موقع تركيا الاستراتيجي كعضو في حلف شمال الأطلسي موضع تساؤل جدي. ويختلف الأمر بين حالتي القاعدتين من حيث وظيفتيهما العسكريتين. ففي حين أمكن للحلف الاستغناء عن قاعدة إنجرلك الجوية في حالات توتر سابقة أغلقتها فيها تركيا بصورة مؤقتة، يبدو الأمر مختلفاً تماماً بالنسبة لقاعدة كورجك التي هي جزء من شبكة الدرع الصاروخية الأطلسية في مواجهة أي تهديدات محتملة ضد الدول الأعضاء بواسطة الصواريخ البالستية. ولا يمكن لحلف الأطلسي أن يستغني عن خدمات هذه القاعدة التي تؤمن شبكة وقاية ضد أي هجمات صاروخية مفاجئة. من هنا يمكن قراءة تهديدات أردوغان باعتبارها نوعاً من الضغط على أمل أن يؤدي إلى تعليق العقوبات الأمريكية المتوقع تنفيذها بسبب إصرار أنقرة على إتمام صفقة شراء صواريخ إس 400 الروسية. وتراهن أنقرة على استخدام الرئيس الأمريكي حق الفيتو بشأن العقوبات على تركيا، بناء على العلاقة الخاصة بين الرئيسين. غير أن إجراءات العزل ضد ترامب في الكونغرس الأمريكي تضعف قدرته على مقاومة ضغط الكونغرس. لذلك يبدو أمل أنقرة في إنقاذ ترامب للوضع في اللحظة الأخيرة أقرب إلى السراب.
كتب المحلل السياسي مراد يتكين في مدونته على شبكة الانترنت يقول إن اجتماعات كثيرة تعقد، هذه الأيام، في أنقرة وإسطنبول، وراء أبواب مغلقة، في مراكز أبحاث مقربة من الحكومة التركية، بحثاً عن وسائل مواجهة العقوبات الأمريكية التي باتت قدراً لا مفر منه. وأضاف مشبهاً الوضع بقطارين يتجهان، بأقصى سرعتيهما، إلى لحظة التصادم، مع العلم أن «القطارين ليسا من الوزن نفسه».
بكر صدقي – القدس العربي
١٨–١٢–٢٠١٩
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع