رواية «دروز بلغراد»: سرد ممتع يفتقر إلى الإنصاف التاريخي والواقعي

مقالات 0 admin

«دروز بلغرادحكاية حنا يعقوب»، هي الرواية التي فازت بجائزة البوكر عام 2012، للروائي ربيع جابر، والتي وصفتها هيئة التحكيم بأنها «العمل الأكثر تميزاً ولمعاناً واجتهاداً، لتصويرها القوي لهشاشة الوضع الإنساني من خلال إعادة خلق قراءة تاريخية ماضية في لغة عالية الحساسية».
تبدأ الرواية مشرقة ببائع البيض المسلوق، حنا يعقوب، حيث ينادي منذ الصباح «بيض بيض، بيض مسلوق»، ويبيعه حتى يعيش هو وزوجته هيلانة، وابنته الرضيعة بربارة. وتدور أحداث الرواية بعد الحرب الطائفية بين الدروز والمسيحيين، حيث كانت الغلبة للدروز، الذين رحل أغلبهم إلى حوران. لكن الحاكم العثماني وبالاتفاق مع الغرب، كترضية لهم، أو كقربان لهم، إثر صنيعة العثمانيين الذين كسروا الغرب بتحريض الدروز، كي يقتلوا المسيحيين الموارنة، واستولوا على الجبل، وأحرقوا حي النصارى في دمشق، وجرت الدماء في أقنية الدواب، في الحرب الأهلية عام 1860. لذلك كان عليه احتجاز الدروز الذين قتلوا المسيحيين ونفيهم إلى بلاد الصرب وطرابلس الغرب، كي يموتوا هناك في الغربة. وبالاتفاق مع سعيد بك جنبلاط، اتفق معه على تسليم الدروز، الذين قدموا إلى الجبل بعد أن يسلموا أسلحتهم، واحتجزهم في السجن من أجل نفيهم إلى بلاد الصرب.
لكن كان النقص بعدد السجناء سجيناً واحداً، لأن الحاكم أعطاه لأبيه مقابل رشوة قدمها أحد وجهاء الدروز، بكل ما يملك من ذهب ومجوهرات. وبمحض الصدفة، أو القدر، كان حنامتوسط القامة، وحنطي الوجه، وأسود الشعر والعينين يبيع البيض في المكان الخطأ، وفي الساعة الخطأ، قرب الباخرة الكبيرة التي ستنقل 550 سجيناً درزياً للمنفى، ولم يستمع إلى حلم هيلانة بأن «السلة وقعت، والبيضات تكسرت». فاحتال المسؤول التركي على حنا بالتعمية والخداع بأنه سيعطيه ثلاث ليرات ذهبية إذا صعد مع المساجين، وسيتم إنزاله في عكا ويعود إلى بيروت، وأعطاه اسما جديداً «سليمان عبد الغفار»، وعندما بدأ حنا يعترض تم ضربة بأخمص البندقية، وكسر فكه، وركبته، وأغمي عليه بعد أن تم ربطه بالحبال حتى بدأ الدم ينزف من رسغيه. وكل هذا إرضاء للمبعوث الفرنساوي الذي جاء ليتفقد أعداد السجناء.
ولم يسمع المبعوث قول حنا «أنا حنا يعقوب، مسيحي من بيروت» التي ترجمها المرافق للمبعوث «بأنه الذي قتل حنا يعقوب المسيحي»، وينضم إلى المساجين، والإخوة الأربعة الدروز في القافلة إلى سجن قلعة بلغراد، حيث وضعوهم كالدواب فوق بعضهم، والغرفة التي زجوا فيها سبعين موقوفاً، لا تتسع إلا لخمسة أشخاص، تماماً مثل سجون النظام السوري خلال الثورة، وخلال الثمانينيات حينما سجنوا بعض المسيحيين كأتباع للإخوان المسلمين. وفي العتمة عاش الموقوفون، بكسرة خبز كل عدة أيام، وقد أصبحوا كالأشباح، يموت منهم العديد يومياً، ينقلون إلى مستودع الموت. وفي المقابل شكلوا كتلة صلبة تجاه الأمراض والأوبئة والبرد والجوع، وكان حنا واحداً منهم، حيث كرهوه في البداية، لكنهم في ما بعد وقفوا إلى جانبه باسمه الجديد «الشيخ سلمان»، وكانوا يعتنون به إذا مرض، كأخ لهم. وللخروج من حالة الموت داخل الزنازين، أنقذتهم «نازلي هانم» عشيقة جودت باشا صاحب بلغراد، لحاجتها إلى دروز بلغراد كي يقطفوا لها الخوخ والتفاح والعنب من المزارع، حيث قدموا للموقوفين الطعام واللباس. والدروز معروفون بالعمل والتكافل والشجاعة، وتكاملهم الأخلاقي، بحيث لا يأكلون من الثمار التي يقطفونها، ولا ينظرون إلى النساء العابرات، ويحتملون القهر الممزوج مع الصبر والدمع المستتر، بسبب القدر الصعب الذي وجدوا أنفسهم فيه، والذي وضعهم في دائرة النار والموت، رغم أنهم شعروا بالراحة والعطف والحنين، والشوق للأولاد اليتامى، بعد ثلاث سنوات في السجن، الذين عادوا إليه، بعد القطاف، وتعميرهم للحيطان الضرورية لنازلي هانم.
يتم قصف بلغراد من قبل القوى الصربية، فينقل الموقوفون إلى سجن الهرسك، وهو أكبر سجن للسلطنة العثمانية، من أجل تعبيد الطريق بين صوفيا وإسطنبول، ثم في حبس برنشتينا، حيث قضى حنا خمس سنوات لسرقته بيضة من قن أحد الساكنين، يحصل الحريق الكبير للسوق والقلعة السوداء، ويهرب حنا بعد أن تم قتل أغلبية الموقوفين، وركض كثيراً عبر الوديان والجبال، إلى أن صادفه راعٍ ، ورعاه بالطعام واللباس وتم توجيهه إلى قاعدة المسافرين إلى الحج، وأصبح مسلماً، وصلى مع الجماعة، وسافر معهم إلى إسطنبول، وحلب ودمشق، إلى أن انفصل عنهم، وتوجه إلى بيروت، وفي قريته التقى هيلانة وابنته من جديد، «حيث جلس حنا على الأرض، أمام البيت، وشعر بالأصابع على جسمه تتأكد أنه ليس شبحاً، وحضن زوجته وابنته وبكى، وشهق وملأ رئتيه بالهواء».
الرواية تبدأ بعنوان ملتبس، «دروز بلغراد»، وهل يوجد دروز في بلغراد، وقصة حنا يعقوب عنهم! ثم نكتشف أن الرواية «ليست من نسيج الخيال»، كما ادعى الروائيمثل غيره من الروائيينإنما هي رواية من التاريخ اللبناني الذي عصفت به الحرب الأهلية الطائفية في عام 1860، كما ذكرت المراجع في آخر الرواية. والرواية بدون التخيل تكف عن كونها رواية، فهي «تاريخ متخيل داخل التاريخ الموضوعي»، كما يصرح أحد النقاد، وكذلك «كي تعبر عما لا يقوله التاريخ». هذه الحرب التي لم يقدم الروائي عنها أي فكرة، وكيف نهضة الموارنة الفلاحين بقيادة طانيوس شاهين ودعوتهم للتخلص من الإقطاعيين الموارنة والدروز، وكيف أن السلطنة العثمانية الحاكمة دعمت الدروز بالسلاح والمقاتلين ضد المسيحيين وحولتها إلى حرب طائفية مميتة، كي تسيطر على الحكم من جديد. مع أنه لمح إلى الصراعات العثمانية ضد بلاد الصرب، وكيف يقصف الكنائس، ويدمر البيوت، وردودهم الطائفية، بأنهم يكسرون السيوف الهلالية. فهي رواية تاريخية، بلغة سهلة، وشعرية بسيطة تصف الأشخاص وبنيتهم، بدون أن تعالج البنية النفسية للموقوفين، حتى يمكن وضعها في أدب السجون، التي تستحق مثل هذا التوصيف.
الرواية التاريخية وأدب السجون، هي رواية سياسية أولاً، فما هي النزعة الفلسفية عند الروائي، إذ في كل رواية اتجاه فلسفي محدد، حيث لا نجد سوى موقفه ضد الظلم الممنهج الذي كان تمارسه السلطنة العثمانية، بدفعها للناس البسطاء إلى السجون والعتمة والموت. لكن لماذا اختيار الطائفة الدرزية للسجون، وهي حليفة السلطنة؟ أين هو الموقف من الصراع الطائفي، وما هي أسبابه؟ هل الدولة المستبدة؟ أم أن هناك أسباباً أخرى، لذلك تجعله منبعثاً مع كافة التيارات اللاوطنية، كما حدث في لبنان وسوريا والعراق واليمن؟ هل الظلم تجاه الدروز هو الذي دفع وليد جنبلاط ليشتري 5000 نسخة من الرواية لأنها تعبر عنه وعن الدروز، كما نشرت صحيفة «الحياة» الجديدة. وما هو الموقف من المسيحيين الذين قُتلوا بعشرات الآلاف، وسبيت نساؤهم في دمشق وغيرها؟
منذ أن تم إدخال المسيحي حنا في دائرة الموقوفين، تبدأ حبكة الرواية، حيث تبدأ التراجيديا المأساوية المعقدة، وبلهجة بوليسية، وبحيث تمثل الحوارات الممتعة، عبر سردية روائية جميلة ومتعددة، والمميتة التي تثير الخوف والشفقة، بتعبير أرسطو، حيث منظر الدماء والبتر والقطع والرمي في الآبار والأخاديد للموت، والجماجم التي تتطاير في الهواء. وهو يصرخ «أين العدل! كيف يصنع الرب بي هذا، وأنا المسيحي المقتول، ولم أقتل أحداً من قبل. إلى أن يصل إلى بيته، وكان اللقاء مع زوجته عادياً للغاية، وليس درامياً، بعد أن بحثت عنه في كل اتجاه، بدون معرفة مصيره، حتى إنها لم تعد مؤمنة بالله لأنها لم تعرف مصير حنا، كما صرحت لكاهن الكنيسة. وتعبير وحدة الأخوّة منطقية في السجون، حيث السوط واحد، والموت واحد، وهذا مفيد للصراعات الطائفية الدائرة في لبنان وغيرها، لكن الروائي لم يتوقف عند الخلافات الاجتماعية بين المسيحية والإسلام، سوى بالآذان، أو رنين أجراس الكنائس. كان من المفترض تبيان الفرق بينهم على مستوى الأفكار والمعتقدات، إضافة لوحدة المصير في ما بينهم. «المؤرخ الجيد هو الروائي»، كما قال صنع الله إبراهيم، في تفريقه بين المؤرخ الأرشيفي والروائي، الذي يسعى إلى إعادة صياغة وبناء العالم الإنساني على أفضل وجه، متلمساً الصدق والأصالة فيه، عبر الاقتراب من البعد الوجداني والعاطفي، الذي تسكت عنه المصادر التاريخية، وهذا لم تقترب منه الرواية. ما الذي يريده الروائي؟ هل اختار طائفة الدروز ليعبر عن مظلوميتهم، بدون أن يخبرنا بذلك، وهم قتلة المسيحيين، أم أن الطرفين مذنبان في الحرب الطائفية.
إن اختيار طائفة محددة غير موفقة، لأن ذلك يشعل النار في قلب الدروز في مناخ الطائفية السائد في لبنان. وهل اختياره للتاريخ لأنه لم يتجرأ على محاربة الطائفية السائدة في لبنان، وذهب إلى هناك حيث الحرية والجمال والعدل؟ إن خيار الروائي هو أن يجعل القارئ يعيش داخل التاريخ في حكاية عن السجون والموت، بعد أن تم تغييب السياسي، وهو الأساس في ظاهرة الاعتقال السياسي. ولم يختر من الواقع الحالي، ولو بكلمة واحدة. وبالتالي لم يضع التاريخ كتعبير عن الحاضر والارتقاء به للأفضل بنبذ الطائفية المقيتة، كما حصل في ثلاثية نجيب محفوظ، كمثال، في سعيه للتجسيد الحقيقي للروح المصرية التي يبحث عنها. فالرواية التاريخيةبحسب جورج لوكاشتثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق بالذات». وذلك كان بعيداً عن الرواية.

 مروان عبد الرزاقالقدس العربي

٣٣٢٠٢٠

الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة