الكارثة ومفهوم العقد الاجتماعي
لولا الخشية من أن يرى بعضهم في كلامي شيئاً بعيداً عن التضامن والأنسنة، لقلت إن كارثة جائحة الكورونا العالمية، ربما ستُحسب خيراً في مستقبل الإنسانية. ربما، وحسب، لأنها تضع العالم أمام مرآةٍ حية للمرة الأولى في العصر الحديث، ربما يختلف حتى عن الكوارث السابقة، من الحربين العالميتين، وعن جائحة أنفلونزا التي كلفت العالم كثيراً منذ حوالي مئة عام.
(يأتيني خيال إيمانويل كانط، وحكومته العالمية وسلامه الدولي كثيراً هذه الأيام، كما تستبدّ بي علاقة الكارثة بالعقد الاجتماعي).
ما زالت الجائحة تجتاح العالم، ولم تصل ذروة فاعليتها بعد، وربما تفعل قريباً، وهي ستتراجع حتماً في ما بعد، بعد أن تفعل فعلها. وهي- حتى الآن- تضرب الأقوياء خصوصاً، الذين حُرموا هذه المرة من التعامل مع كوارث الآخرين كما اعتادوا. وليس معروفاً بعد، كيف ستكون نتائج ذلك على العالم من جميع نواحيه، البشرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. وسيأتي هذا النص هنا في عجالة على آثاره المحتملة على الأساس «القانوني» الذي يحفظ المجتمع الدولي، من خلال حفظ أمن المجتمعات المشتركة فيه واستمرارها، على عقد اجتماعي ما،
ولن يكون ذلك سهلاً، إلا من خلال أدوات وآليات مختلفة وجديدة، ربما يمكن اشتقاقها من النسق الذي اقترحه جون رولز الفيلسوف الأمريكي الذي يُعتبر كتابه «نظرية العدالة»- 1972 أحد أهم ما صدر في القرن العشرين في اختصاصه، بما أطلق عليه اسم «الموقف الأصلي» الافتراضي، بخلوّه من أي مؤثرات ذاتية مسبقة، والذي أصبح أسهل تطبيقاً في هذه الأيام بعد خمسين عاماً من اقتراح رولز، الذي سيتوصل المشاركون فيه إلى صياغة للعقد، من وراء «حجاب الجهل» الافتراضي أيضاً، الذي ينزع عن المشاركين كلّ ما يؤثر على حكمهم، كمكانتهم وحالتهم الاجتماعية، وتاريخ صراعاتهم، وقدراتهم الطبيعية، وقوميّتهم وجنسهم ومفهومهم الشخصي عن مفهوم الخير ومستوى تقدمهم الحضاري وثقافتهم، لا تبقى إلا القدرة على تطوير الشعور الصافي بالعدالة. وكما اكتشف رولز كانط من جديد، الذي استند بدوره إلى جان جاك روسو، الذي استند أيضاً إلى لوك، نستطيع الآن أيضاً أن نعيد اختبار تلك السلسلة، التي كان لها دوراً عميقاً في التقدم نحو المستوى الحضاري الذي وصلته البشرية.
أقرت قمة العشرين إنفاقاً قيمته خمسة تريليونات لاستيعاب صدمة كورونا، التي ربما تحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك. وابتدأت ملامح الصراعات على الطريق، بشكلٍ موازٍ للجهود المشتركة. كما أقرت دولٌ عظمى إنفاقاً موازياً لمنع اقتصاداتها من الانهيار المتدرّج أو الفجائي. ولا يوجد إطلاقاً أي إمكانية للتنبؤ باحتمال نجاة مجتمعات ودول، وتدهور مجتمعات ودول أخرى. فالعولمة وتواصل العالم، بمواصلاته ومصالحه وترابطه، يبرز الآن بجانبه البشع، الذي يؤكد أن العالم كرةً واحدة. لا بدّ إذن من التأمّل وإجراء الاختبارات الافتراضية، ونحن ما نزال بعدُ في محاجرنا.
هنالك من يرى إمكانيات مختلفة للعودة عن العقد الاجتماعي الحديث، بتجلياته مثلاً في نظرية رولز عن العدالة، ليس إلى من سبقه وحسب، بل إلى رابطه الأول عند توماس هوبس، وكائنه الخرافي «لوياثان»، الذي اقترحه تمثيلاً لرؤيته عن الدولة والمجتمع، ليس من أجل تبرير الطاغية وسلطته المطلقة وحسب، بل إلى تبرير الشمولية أيضاَ، بانضباطها الذي مكّن الصين من تجاوز الموجة الأولى من الوباء. ولطالما تمكن الطامحون إلى عدالة اجتماعية مختلفة من اشتقاق معادلة هوبس البسيطة، وتحديثها على حالة الاتحاد السوفييتي والصين ومن كان حولهما، وتشويهه بقوة في «اشتراكيات» العالم الثالث، التي كان الكثير منها وما زال أقرب إلى سلطنات. اختزلت تلك الحكومات الحقوق في حالة الطبيعة الأولى إلى حق الحياة، المهدّد دائماً مع الأزمات.
أعادت الكوارثُ الحالةَ القائمة إلى الطبيعة في التاريخ، وهي سوف تعيدها جزئياً على الأقل مع الكارثة الراهنة، حين تتطور. وقد ابتدأ البعض في تطوير فكر خاص بالكوارث، منذ بعض العقود، في مراكز بحث مرتبطة بالأمن الوطني، أو إدارة الكوارث، من حيث التحضير لها، وآليات مواجهتها، ثم التعامل مع آثارها لاحقاً. ويمكن أن يكون أحد أبواب النظر في ذلك بتوسيع نظرية العقد الاجتماعي وتحديثها، إضافة إلى تطبيقات المنظومات الأخلاقية الأقرب إلى التعميم والتجريد أولاً، قبل تحويلها إلى نظم وقواعد وقوانين. ويساعد الخوف الذي يلفّ أهل العلم أنفسهم، بجعلهم أقرب إلى الإنسان العادي، ومن ثَمَ في تطبيع عملهم.
بالطبع هنالك من يُرجع أصل الدولة إلى التطور التاريخي، الذي تتخلّق مبادئه مما يحدث ويطرأ، وذلك وجه آخر لإرجاع الدولة إلى اللاهوت في النظرية الثانية، أو إلى مبدأ القوة وسلطتها القاهرة وعمرانها الخلدوني الدوّار. ولكن الشكل الأكثر تناسقاً حتى الآن مع مسار أنسنة الدولة؛ تلك المهمة التي طالما بدت أقرب إلى المستحيل أحياناً، وإلى الممكن الوحيد أحياناً أخرى؛ هو مفهوم العقد الاجتماعي، بتحديثه مع تطورات مفهوم العدالة الاجتماعية والإنسانية في الوقت نفسه، ومع خبرات العالم الحديث وثغرات تقدمه المؤلمة.
يصف هوبز الهيمنة بأنها روح لوياثان. حالة الطبيعة – إن «الوضع الطبيعي للبشرية» هو ما كان سيوجد لو لم تكن هناك حكومة، ولا حضارة، ولا قوانين، ولا سلطة عمومية لكبح جماح الطبيعة البشرية. الحياة في حالة الطبيعة «مقرفة ووحشية وقصيرة».. لذلك يمكن اعتبار الطاغية منقذاً للناس من ذواتهم، وربما استطاع – في دولٍ وأنظمة كثيرة – أن يحيل حياتهم وعقدهم الاجتماعي الذي يضمن فيها أمنهم إلى حياةٍ «مقرفة ووحشية وقصيرة»، في حالة تشبه حالة الطبيعة التي يسودها حاكم لا حدود لسلطته.. هل تريدون أمثلة؟ هنا تبدو الكارثة سهلة ومثيرة لفضول أقل، وربما خوفٍ أقل أيضاً.
في حين قال جون لوك، إن من بين الحقوق الطبيعية الأساسية للإنسان» الحياة والحرية والملكية الخاصة»، ولذلك اعتبر أن أبسط قانون إنساني وأكثرها بداهة هو الحفاظ على الجنس البشري. وهنا يمكن استحضار الكارثة أيضاً بافتراضاتها ومصائبها معاً. وهو يتابع أن للبشر الحق بالدفاع عن أنفسهم كذلك، ولهم الحق والواجب بأن يحافظوا على حياتهم. وحدد لوك أساس شرعية الحكم في أنه إذا فشلت الحكومة في حماية هذه الحقوق، سيكون لمواطنيها الحق في الإطاحة بها. وقد أثرت هذه الفكرة بقوة على توماس جيفرسون عندما قاد صياغة إعلان الاستقلال في الولايات المتحدة الأمريكية.
سيكون مفيداً أيضاً للمراجعات المقبلة نفياً وإيجاباً، الالتفاتُ إلى تلك الناحية التي اختصر بها جون لوك كلّ الحقوق التي يتنازل عنها المواطن لحكومته لينتمي إلى المجتمع المدني في الدولة، في تخليه عن حقه بأن يأخذ حقه بيده، أو أن يعاقب بذاته من يخالف أصول العيش المشترك. ذلك هو الحق بالاستمرار على حياة اليقظة والانتباه والحراسة الدائمة. ولن يكون كافياً أبداً التوقف عند جون رولز أيضاً من أجل تحديث مفهوم العقد الاجتماعي، بعد الكارثة، من دون نقد وإعادة اختبار. فعلى الرغم من تشديده على أولوية مبدأ الحرية على مبدأ المساواة، في الفرص أو مبدأ التمايز، وتشديده على أولوية المساواة على حق التمايز، إلا أن هنالك ثغرات مهمة نفذت منها الليبرالية الجديدة، لتضرب بقوة تشديده ذاك ولتذهب به إلى آلة التدوير الرأسمالية العملاقة.
سوف يكون مهماً متابعة سلوك ونتائج دور الرعاية الاجتماعية ومقدار نجاحها أمام الكوارث، بعد أن لوحظ مباشرة الدور المدمّر لغياب التأمين الصحي في أكثر من مكان، إضافة إلى التأثير الاقتصادي العام، وعلى الشغل والأجور والبطالة، الأمر الذي تستسهل الدول (الحكومات) الغنية فيه الإنفاق المباشر الهائل كحلٍ وآلية لمواجهة الأزمة التي لم تشبهها أزمة سابقة. بمثل هذا البحث والتحديث أيضاَ، لن يكون للكارثة؛ بعد دروس تطوير أدوات وآليات التحضير والمواجهة المباشرة معها، ثم مع الآثار اللاحقة لها؛ من درس ساطع أهم من مفهوم العدالة بحركته وتحولاته الدائبة… فسوف يظهر الخلل بادياً على العقود الاجتماعية الوطنية إن جاز القول، والعقد العالمي أيضاً. ولأنها» شريعة المتعاقدين»، فسوف تُطرح بقوة مسألة إعادة النظر فيها وتحديثها بالعمق الذي يساعد على تجنب الكوارث أو مواجهتها، ومن ذلك ربما أن يكون علم الأخلاق في حيثيات العقود عند تجديدها، لأنه يضمن مستوى أعلى من المشاركة في الواجبات، ويُدخل تفاعل المشاعر على تفاعل المصالح. ومن ذلك على سبيل المثال الصارخ، محاكمة النظم الاستبدادية التي ما زالت تمدّ ألسنتها للتاريخ وللبشرية، ولا تلتزم إلا بالحدّ الأدنى البدائي من عقدها الاجتماعي مع “مواطنيها” مثلاً.
موفق نيربية – القدس العربي
٣١-٣-٢٠٢٠
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع