إيران والخيارات الصعبة، هل تتجرّع كأس السم في سوريا
منذ انتصار الثورة الإسلامية، وسيطرة رجال الدين على مقاليد السلطة في إيران عام 1979 انتهجت إيران سياسة مناوئة تجاه الغرب، باعتباره محكوم بأنظمةٍ علمانيةٍ، وديمقراطية، فهو بذلك متناقض جبهياً مع النظم الإسلامية، وعلى وجه الخصوص، النظام الإيراني الإسلامي المبني على نظرية ولاية الفقيه، والذي يتبنى سياسة تصدير الثورة، حيث لم يكتفِ باعتمادها سياسة توسعية كما هي الحال عادة بالدول الاستعمارية، بل شرعنها في دستور الدولة، تحت بند دعم المستضعفين ومواجهة المستكبرين وفقاً لنص المادة 154 من الدستور. واتبعت إيران سياسة مناوئة تجاه النفوذ الغربي في الشرق الأوسط، وكان ذلك ليس فقط بسبب رفض الغرب للثورة الإسلامية، وإنما أيضا بسبب الدعم الغربي للشاه أمام حركة المعارضة الداخلية التي اندلعت ضده عام 1963 رداً على القوانين التي أصدرها الشاه تحت مسمى “الثورة البيضاء” التي اعتبرتها المعارضة المتمثلة برجال الدين آنذاك أنها محاولة لتمثل القيم الغربية في المجتمع الإيراني وترسيخ العلمانية؛ علاوة على ذلك أدرك نظام ولاية الفقيه أهمية الخطاب المناوئ للغرب في تماسك جبهته الداخلية ما مكنه لاحقاً من إقصاء الفئات ذات الميول الديمقراطية والعلمانية بدعوى مواجهة الغرب لاختراق البنية المجتمعية الإيرانية. وفي سبيل ترسيخ وجوده، انتهج النظام الإيراني سياسة توسعية تحت غطاء مذهبي. واعتمدت طهران في تحقيق أهدافها التوسعية، وسياسة تصدير الثورة، على الجانب العسكري الهادف إلى عسكرة الصراعات الداخلية للدول المجاورة، وفي الوقت نفسه تبنت، خطاباً خارجياً مناهضاً للغرب في الشرق الأوسط بهدف استمالة شعوب تلك المنطقة، قبل أن يأتي دور الأداة الثقافية والمذهبية بهدف التأثير على توجهاتهم الدينية، ما يمهد الطريق لاحقاً لنشر التشيّع.
في الاتجاه المقابل نجد الموقف الغربي المعارض والمعاكس تماما للمشروع الإيراني، فالغْرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، ولأسباب مختلفة، عارضت سياسة تصدير الثورات من قبل الأنظمةِ الشمولية وبالأخص الإسلامية منها، والمتمثلة بالنظام الإيراني وسياستِه التوسعية ودوره المزعزع لاستقرار دول المنطقة، علاوة على ذلك كله محاولة إيران امتلاك السلاح النووي مما يعتبره الغرب خطراً كبيراً على الأمن والسلم الدوليين لدولٍ مصنفة بالمارقة وداعمة للإرهاب.
من كل ما تقدم يصبح من نافلة القول إن الصراع بين إيران والغرب المتمثلة بأمريكا وكذلك إسرائيل “مع اختلاف الأسباب طبعاً بالنسبة لإسرائيل ” هو صراع حقيقي وأصيل وليس كما يصفه البعض بالمسرحيات وتبادل الأدوار احياناً، وبالمؤامرةِ أحياناً أخرى.
ومن كل ما تقدم، وبعد أن أصبحت إيران جزء من أزمة المنطقة، نتيجة لطبيعتها التوسعية العدوانية، وبعد تدخلها بقوات عسكرية مباشرة، كما هو الحال في سوريا والعراق، او عبر وكلائها مثل لبنان واليمن، وإذا ما أضفنا عليه، الضغوط الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لكبح جماح إيران النووي من جهة، وسياسة تصدير الثورة، وتدخلها المزعزع لاستقرار المنطقة من جهة أخرى، يبرز السؤال الجوهري القائل بكيفية التعامل الإيراني مع كل تلك الضغوط سواءً العسكرية المتمثلة بالضربات الاسرائيلية، أو بالحصار الاقتصادي الخانق الذي تفرضه عليها الولايات المتحدة الأمريكية بعد إلغاء الاتفاق النووي من قبل إدارة ترامب؟
إذن، ومن خلال ما تقدم، هناك محاولات جادة لإخراج ايران من المنطقة وبشكل خاص من سوريا، حيث بات هذا التدخل يشكل قلقاً حقيقياً لإسرائيل التي تسعى جاهدة لإبعادها عن حدودها خوفاً من نسخ التجربة اللبنانية في الجولان السوري وهذا ما لن تسمح به إسرائيل إطلاقاً. ففي تصريحات غير مسبوقة قال مسؤولون عسكريون في وزارة الدفاع الاسرائيلية إن إيران بدأت للمرة الأولى منذ دخولها سوريا تقليص قواتها وإخلاء بعض مواقعها هناك، على خلفية القصف الإسرائيلي المتواصل، وحسب المصادر التي لم تسمها هيئة الإذاعة والتلفزيون الاسرائيلية، فإن إسرائيل سوف تكثف الضغط على إيران حتى إخراجها من سوريا تماماً، حيث لوحظ “والتصريح يبقى لهيئة الإذاعة والتلفزيون الاسرائيلية” في الأشهر الستة الأخيرة انخفاضاً في حجم رحلات طائرات الشحن التي كانت تستخدم لتهريب الأسلحة إلى حزب الله.
التصريحات الجديدة تأتي منسجمة مع هدف اسرائيلي سابق كان أعلنه وزير الدفاع “بينيت” في فبراير/شباط الماضي حين قال: في تل أبيب يهدفون إلى إبعاد إيران من سوريا خلال الأشهر ال 12 المقبلة.
والحال كذلك هل يمكن رسم سيناريو لكف يد إيران في سوريا عبر سحب قواتها العسكرية والتراجع عن تحقيق نفوذها الاستراتيجي في المنطقة، وذلك بغية الالتفات لحالة التدهور الاقتصادي والخلل الاجتماعي والسياسي في الداخل الإيراني، في محاولة لتجاوز الضغوط الدولية التي تواجهها، مقابل ضمانات روسية للإبقاء على امتيازاتها في إعادة الأعمار وما بعدها؛ وما هي إمكانية أن تقبل إيران بهكذا سيناريو، ضمن التساؤلات المطروحة حول دوافع إيران لتسليم شؤونها لروسيا التي تُنافسها أصلاً على النفوذ في سوريا، أضف إلى ذلك الحاجة الإيرانية لنفوذ حقيقي مباشر أحياناً وغير مباشر أحياناً أخرى، “وذلك بحسب الظروف التي تقضيها طبيعة التدخل وشروطها الموضوعية ” في سبيل إدارة الوضع الأمني والسياسي في سوريا لمصلحتها.
إن الدوافع الجيوسياسية التي تنطلق منها الدول، لتحقيق مصالحها في حيز جغرافي خارج حدودها القومية، بدافع اقتصادي أولاً ومن ثم أمنياً وعسكرياً، هو ما يجعل إيران متمسكة بوجودها في سوريا ومن الصعوبة بمكان أن تقبل بترك كل هذا، وهي التي أنفقت ملايين الدولارات سنويا منذ بداية تدخلها في سوريا، بعد اندلاع الثورة السورية والتي كادت ان تطيح برأس الأسد حليفها الذي لا تستطيع التخلي عنه، وذلك لدوره الكبير في تحقيق استراتيجيتها في المنطقة كما نوهنا سابقاً.
ولكن في المقابل تمر الأزمة السورية بمنعطف تحولي كبير يقوم على مبدأ تقاسم النفوذ الذي يضمن توازن القوى، بين الدول الفاعلة وعلى رأس تلك الدول تأتي الولايات المتحدة الأمريكية من جهة وروسيا من جهة أخرى، حيث يمكن القول ان تلك الدولتان هي التي ستقرر بالنهاية طبيعة الحل، وكيفية تقاسم النفوذ والكعكة المنتظرة، ولكن وبالرغم من كل هذا يبقى للدور والوجود الإيراني خصوصيته، لجهة الخلاف الشديد بين الأطراف المؤثرة في المسألة السورية وعلى وجه الخصوص أمريكا التي تناصب إيران العداء وتسعى كما ذكرنا لطردها من سوريا ولا ننسى أيضاً وأيضاً الدور ” الإسرائيلي” بحيث يمكن القول بشكل حازم إن الوجود الإيراني مرتبط فقط بتلك الدينامية الامريكية الاسرائيلية من جهة والإيرانية من جهة أخرى، فهل ستأتي تلك الضغوط والدينامية سابقة الذكر، أكلها، وتتجرع إيران كأس السم، بخروجها من سوريا وانكفاء مشروعها الشرق أوسطي إلى الداخل الإيراني؟
تيار مواطنة
المكتب الإعلامي 18أيار/ مايو 2020