العراق إلى أين ؟

بخلاف ما تشهده الساحة السياسية السورية من ثبات، يعكس حالة انسداد أفق أي حل أو تسوية للأزمة السورية المتفاقمة منذ أكثر من تسع سنوات، نتيجة لعدم نضج أية حلول، تتوافق مع مصالح القوى الفاعلة والمتحكمة بالساحة السورية، وباستثناء ما يجري في أروقة الأمم المتحدة في جنيف، لاجتماعات اللجنة الدستورية، والتي لا يرى الكثير من السوريين فيها أكثر من طبخة بحص، نجد، وبعكس ذلك، على المقلب الآخر، تتفاعل في أكثر من ساحة عربية “كالعراق ولبنان وليبيا” الكثير من الأحداث السياسية والأمنية تسترعي انتباه المراقبين، وبالأخص ما يجري على الساحة العراقية من أحداث امنية وتحركات سياسية ذات أهمية ودلالات كبيرة، بما لها من تأثير في مستقبل العراق، بل وعلى كامل المنطقة.

يشهد العراق في الآونة الاخيرة تطورات وأحداث متسارعة، وحركة سياسية نشطة، يمكن أن نميز فيها ثلاثة مستويات “بالرغم من كونها متداخلة مع بعضها البعض ويصعب فصلها ألا بقصد الدراسة والبحث وهي:” المستوى الأمني، المستوى السياسي والمستوى الدبلوماسي”.

1- المستوى الأمني: يشهد العراق منذ العام تقريبا مظاهرات غير مسبوقة من حيث المطالب، حيث ركزت مطالب المتظاهرين على محاربة الفساد المستشري بالطبقة السياسية، ومن أجل استعادة العراق لدوره الطبيعي.

اتسمت تلك المظاهرات بالسلمية، ولكن كما هي العادة قوبلت بالعنف المفرط والقتل العمد من قبل بعض الاجهزة والميليشيات التابعة لإيران على رأسها ميليشيات الحشد الشعبي، والتي كانت بالأساس، أي الميليشيات، سبباً من الأسباب التي قامت من أجلها تلك المظاهرات، حيث تغولت وأصبحت تهدد الدولة، بعد أن أصبحت دولة داخل الدولة كما هو الحال مع حزب الله في لبنان.

اما الاحداث الامنية الأخطر في الآونة الاخيرة والتي تحمل مدلولات سياسية و تؤشر إلى مآل الأحداث ومخاطرها هي اغتيال النشطاء السلميين وعلى رأسهم هشام الهاشمي الخبير الأمني الذي قدم المشورة لحكومة الكاظمي في بغداد بما يخص الجماعات الإسلامية المتطرفة، والقى الكاظمي اللوم على جماعات خارجة عن القانون، وتعهد بعدم السماح بعودة الاغتيالات. وكذلك أيضا ما قام به محتجو الناصرية من حرق مقرات ومكاتب أحزاب تابعة لميليشيات وأذرع إيران في الناصرية، وذلك بعد سلسلة من الاغتيالات لناشطين في الحراك السلمي هناك، وبشكل خاص الطبيبة العراقية التي شاهدها العالم وهي تقود المظاهرات، التي برز فيها شعار ” أنا ولائي للوطن” وهذا ما دفع الكاظمي للذهاب شخصياً إلى الناصرية للوقوف على الأحداث المتفجرة، ليبعث برسالة إلى المعنيين بأن حكومته جادة بمعالجة الملف الأمني بكل جوانبه، وان زمن الاغتيالات لن يعود من جديد على حد تعبيره، كما عبر عن ذلك أيضا أثناء تقديم العزاء في بيت الطبيبة العراقية المغدورة.

 

2- المستوى السياسي: منذ ما يقارب العقدين من الزمن والعراق ضحية لبنى اجتماعية عشائرية، وطائفية متخلفة، ساهمت تلك البنى وبشكل خاص، بعد سقوط نظام صدام حسين وانهيار الجيش ومؤسسات الدولة، بدخول العراق في حالة من التخبط والتفكك، عادت بالوبال على العراق وشعبه، ما ترك الباب مفتوحا أمام التدخلات الخارجية، حيث كان من أبرزها التدخل الإيراني، مستغلا تفكك العراق وبنيته الاجتماعية الهشة، ولاعبا على وتر الطائفية البغيض.

الان يحاول رئيس الوزراء الجديد إنشاء نموذجا مختلفا للعراق، يؤكد على السيادة ومكافحة الفساد، وإقامة علاقات عسكرية متوازنة، تراعي الحساسات العراقية، مع القوات الامريكية، وذلك بعد الاتفاق مع الرئيس ترامب لوضع جدول زمني لسحب القوات الأمريكية ذات المهام القتالية من البلاد في غضون ثلاث سنوات، مع الاحتفاظ ببعض القوات والخبراء لأهداف تدريبية فقط، “هذا ما قالته صحيفة الواشنطن بوست الامريكية” عن مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء العراقي.

يتمنع الكاظمي، رئيس وزراء العراق بشخصية قوية مثيرة للاهتمام في المنطقة، فعندما أصبح رئيس للوزراء بعد الاحتجاجات المناهضة للفساد والتي أصابت البلاد بالشلل، اتخذ الكاظمي بشجاعة، مسارا مستقلا ونأى بنفسه الى حد ما عن إيران وانضم إلى حركة الاحتجاجات التي تريد القضاء على أمراء الحرب السياسيين الفاسدين. كان الكاظمي قد شدد في وقت سابق على ضرورة إبعاد العراق عن سياسة المحاور، لافتا إلى أن، “هذا المنهج الذي تسير عليه الحكومة الحالية”، وأضاف “التوازن والوسطية والاعتماد على تعزيز التعاون، بالأخص في العلاقات الاقتصادية، بما يضمن مصلحة العراق، هو ما نسعى اليه في علاقاتنا الدولية. ”

يعتبر العراق مجالا مهما ونقطة جذب للتنافس الأمريكي- الإيراني، وكشف الكاظمي طريقة التعامل مع طهران، حيث قال: إنه أبلغ القادة الإيرانيين أثناء زيارته لطهران، ان على طهران اقامة علاقات  ” دولة لدولة ”  بدل العمل مع قادة الميليشيات الفردية الذين قد يسعون إلى تقويض سلطة بغداد.

 

3- المستوى الدبلوماسي: يشهد العراق حركة دبلوماسية نشطة، حيث يسعى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي من خلالها، الى معالجة كل الملفات، الأمنية والسياسية، بالإضافة للملف الاقتصادي، كما ذكر سابقا، من خلال إقامة علاقات متوازنة مبنية على احترام السيادة والمصالح المشتركة بين الدول بعيداً عن سياسة المحاور، كما تعتمد على التعاون في العلاقات الاقتصادية، بما يضمن مصلحة العراق.

ضمن هذا السياق قام رئيس وزراء العراق بتحركات دبلوماسية نشطة، وكانت الزيارة الأولى التي كان يود القيام بها أولاً، إلى السعودية والتي تأجلت إلى موعد يحدد لاحقاً، بسبب الوعكة الصحية التي ألمت بالعاهل السعودي.  الزيارة الثانية التي كانت على جدول أعماله هي إلى طهران، حيث أكد فيها الكاظمي على ضرورة التعاون بين البلدين من “دولة لدولة” واحترام مبدأ سيادة الدول على أراضيها، مطالبا إيران بالكف عن التعاون مع الميليشيات التي تسعى لتقويض الدولة على حد زعمه. والزيارة الثالثة في هذا الإطار كانت لواشنطن والتي وصفها الجانبين بالإيجابية، استطاع من خلالها الكاظمي الاتفاق على الكثير من القضايا بالأخص فيما يتعلق بالتواجد العسكري في العراق ومواعيد انسحابه، وجدولة إعادة انتشاره، ووظائفه المستقبلية.

أما التحرك الدبلوماسي الأهم، الذي جمع كل من، الكاظمي بالرئيس المصري السيسي والملك عبد الله الثاني في الأردن، والذي لاقى صدى مهما لدى الإعلام والمتابعين والمهتمين بالشأن العراقي ولدى الدوائر الدولية، بما يحمله من دلالات سياسية تؤشر بشكل واضح على وجهة العراق الجديدة، وجدية الكاظمي في تطبيق الرؤى الطموحة والشجاعة، لمستقبل عراق حر، يمارس فيه العراق سيادته، أينما يجد ذلك ضروريا، بما يخدم مصالحه السياسية والاقتصادية والامنية على حد سواء.

بأهداف اقتصادية شبيهة بتلك التي دفعت الى تشكيل الاتحاد الأوروبي طرح الكاظمي على القمة الثلاثية مشروع الشام الجديد، لربط الدول الثلاث اقتصاديا – في الحقيقة المشروع كان مطروحا كأفكار من قبل رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي – سيشكل نواة للاستثمار مما يتوفر للدول الثلاث من إمكانيات لخدمة مصالحها، العراق يمكنه الاستفادة من إمكانياته النفطية ومصر من طاقاتها البشرية ومصانعها أما الأردن باستغلال موقعه الاستراتيجي.

طموح القائمين على المشروع ربما يتعدى أهدافه الاقتصادية، فهم يرون فيه إذا ما توفرت الارادة، نواة لتحالف في المنطقة سيفضي مستقبلا إلى اتفاقيات، عسكرية، وأمنية، وحتى سياسية، يراد منها مواجهة التدخلات الخارجية التي باتت تستنزف خيرات هذه البلاد وتستخدم أبنائها وقود في تلك المخططات. ومما لا شك فيه ان الكاظمي طرح مشروع هذا التكتل على قادة البيت الأبيض خلال زيارته الاخيرة لواشنطن، بغرض الحصول على الدعم الكافي لإنجاحه. كما سيكون المشروع في صلب مباحثات الكاظمي مع العاهل السعودي أثناء الزيارة التي سيقوم بها الى السعودية في المستقبل القريب، لما لهذا المشروع من منافع تعم المنطقة وقد تجمع أطرافا اخرى فيه. يروى بعض المراقبين أن الرؤيا الطموحة لمشروع الشام الجديد تقف وراء الكاظمي بإرسال رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقية “فالح الفياض” الى دمشق لتسليم رئيس النظام بشار الأسد رسالة حول أهمية انضمام سوريا لهذا التحالف بغية تخليصها من أزمتها وإعادتها الى موقعها الطبيعي في المجموعة العربية.

 

في النهاية لابد من التنويه الى حجم التحديات التي تواجه الكاظمي بالأخص فيما يتعلق بالملف الإيراني وتعقيداته، وبما يحمله هذا المشروع من تركيز على مبدأ سيادة العراق، والذي يتعارض وبشكل جبهي مع المشروع الإيراني في المنطقة، حيث يعتبر العراق من أهم مرتكزاته، كيف ستتعامل إيران مع كل تلك التحديات التي تواجهها، هل تنحني إيران أمام العاصفة؟ وهل ستتعامل بسياسة براغماتية مع طموحات العراق، بسياسة قلما استخدمها صقورها؟ أم ستواجه بذات الطريقة التي طالما اعتمدتها، فما زال ماثلا أمامنا الطريقة التي تعاملت فيها مع لبنان، عندما أصبح رفيق الحريري قبل اغتياله، مهددا حقيقي لمصالح إيران في المنطقة، وذلك لما كان يمثله من وزن عربي ودولي وطائفي في لبنان.

تيار مواطنة

المكتب الإعلامي 15 أيلول/ سبتمبر 2020

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة