هل الإسلام الراديكالي صناعة غربية؟

جاء إعلان الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون“ بأن “الإسلام ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم ولا نراها في بلادنا فقط”، مشيراً إلى أن “الإسلام يحاول خلق منظومة موازية لإحكام سيطرته في فرنسا“، ليحرك مياه راكدة، وسواء أراد ”ماكرون“ تغطية تراجع شعبيته أو محاورته لليمين السياسي في بلاده، فإنني أدعو لمناقشة هذا الملف بعقل وروية ما استطعت إليها سبيلا.

حيث كان ”ماكرون“ قد أكد خلال مؤتمره الصحفي -الذي نقلته مختلف وكالات الأنباء- أن “الإسلام دين يمر اليوم بأزمة عميقة مرتبطة بالتوترات بين الأصولية والمشاريع الدينية والسياسية التي تؤدي إلى تصلب شديد للغاية“، وأضاف ”أن على الدولة الفرنسية مكافحة الانعزالية الإسلامية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تأسيس مجتمع مغلق مضاد“، مشيراً إلى أن “هناك في هذا الإسلام الراديكالي، إرادة علنية لإظهار تنظيم منهجي يهدف إلى الالتفاف على قوانين الجمهورية وخلق قانون مواز ذي قيم أخرى، وتنظيم آخر للمجتمع“.

من المؤكد أن الأحياء الفقيرة ذات الغالبية المهاجرة في الضواحي الباريسية تشهد على فشل كبير للسياسات الحكومية على مدار عقود، ما يمنع دمج هؤلاء بالمجتمع الفرنسي، ويتركهم في مجتمعات هامشية، بغض النظر عن انتماءاتهم العقائدية سواء كانت الإسلام أو غيره. واعترف ماكرون -بواقعية الغربي النقدية- في خطابه بالمسؤولية عن ذلك، إذ اعتبر ”أن السلطات تتحمل المسؤولية“، في تطوير ظاهرة “تحول الأحياء إلى غيتويات”، وقال ناقداً: “قمنا بتجميع السكان بموجب أصولهم، ولم نعمد إلى إحلال ما يكفي من الاختلاط، ولا ما يكفي من تمكينهم من التدرج الاقتصادي والاجتماعي”.

وهذه ليست التصريحات الأولى التي تستفز مشاعر ملياري مسلمة/مسلم حول العالم -كما رأى شيخ الأزهر- حيث ملايين المساجد والأئمة وقادة الرأي والفقهاء والساسة الإسلاميين. إذ اعتدنا بعد كل تصريح مشابه من زعيم غربي أن تقوم الدنيا ولا تقعد، ويبدأ سيل من الاتهامات الجاهزة كالعداء للإسلام والمسلمين وموجة الحاقدين من متصهينين إلى صليبيين إلى عملاء لليهود، والقائمة تطول ضمن محاولات الإنكار والتحوير والتبرير، وكلنا يعلم أن جدل قضايا الفكر الإسلامي لم تبدأ حديثاً بل تعود لقرون عدة، وأطروحات تجديد الفكر الديني التي نهض بها مفكرون كثر كبار كانوا قد تحدثوا عن تأخر المسلمين كالكواكبي والأفغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان، عبدالله العروي، مالك بن نبي، علي عزت بيكوفيتس، والصادق النيهوم، فرج فودة، محمد اقبال، محمد شحرور، وعلي شريعتي… وكثيرون ملأت مؤلفاتهم وأبحاثهم رفوف المكتبات، إلا أن مستويات القراءة المحدودة والاكتفاء بسماع وترداد أقوال المشايخ الواعظين والأئمة دون بذل أي جهد عقلي تعتبر سمة مجتمعية غالبة تكاد تفقأ العيون، وأظن أن كتب التجديد ونقد الفكر الديني كغيرها لم تحظ بقراءة المسلمات/ين لها وتفهمها واعقالها فـ“أمة إقرأ لا تقرأ“، حيث تشير الاحصائيات إلى مستويات مرعبة فاضحة في ضعف القراءة لدى العرب، وإن مجموع ما ترجَـمه العرب من الكُـتب خلال الألف عام الأخيرة منذ عهد الخليفة المأمون قد يساوي عدد الكُـتب التى تُـترجمها مملكة إسبانيا وحدها خلال عام واحد فحسب! ويقرأ كل 80 عربياً كتاباً واحداً في السنة، بينما يقرأ الأوروبي الواحد 35 كـتاباً والاسرائيلي 40 كـتاباً في السنة، وإن تركنا الكم وذهبنا إلى النوع وتابعنا أخبار معارض الكتاب في الدول العربية، فإن الكتب الدينية، كتب الطبخ، كتب الأبراج تشكل الأكثر مبيعاً فيها.

 رغم أن أول آيات القرآن كانت “إقرأ وربك الأكرم“ وبهذا فالمسلمات/ون منفصمات/ون حتى عن النص القرآني الذي يقدسونه في هذه النقطة، والدين نفسه أكد بتكرار لافت على أهمية العلم والقراءة، وطلب “العلم ولو في الصين”، فماذا حدث عبر التاريخ وأي بنية نفسية لدى مجتمعنا حتى هجروا -وأخص هنا العرب- العلم فأمسوا في تخلف عن ركب العصر والأمم؟

وعندما يُجمع مشايخ الدين ودور الافتاء الإسلامية على مهاجمة ”ماكرون“ شخصياً قبل تصريحاته أيضاً علينا الوقوف ملياً عند هذا، ومراقبة مدى التحدي المتصاعد لانعزالية المسلمين في بلدانهم عن مواطنيهم. فالرجل يقول “ما نحتاج محاربته هو الانعزالية الإسلامية… فالمشكلة في أيديولوجية تدّعي أن قوانينها يجب أن تعلو على قوانين الجمهورية. وراحت تحوّل الأحياء الفرنسية إلى مجتمعات منغلقة”.

تحضرني هنا مقولة الأفغاني المأثورة في حجاجه مع الغرب والتي تقول: “حدثوني عن الإسلام ولا تحدثوني عن المسلمين، فالإسلام منزّه عن كل نقص في حين أن المشكلة في المسلمين“، وعليه التبريرات عادة جاهزة للقفز فوق التحليل والمحاكمة العقلية بالدفاع عن الإسلام من خلال فصله عن الواقع وتجريده، لنحسب الإسلام وكأنه في فضاء آخر معلق بين السماء والأرض، ونهرب من معالجة دوره التاريخي ومدى جمود أو تجدد تفسيرات نصوصه وانسجام مفاهيمه مع تطور المجتمعات وحركة التاريخ ويمسي ذلك محالاً واقعياً مع غلو منطق قداسة النص، لتغدو كل محاولة تجديد ضرب من لي عنق النصوص خدمة لمتطلبات الواقع (حيث أجمع باحثون بالتاريخ الإسلامي على توقف الاجتهاد الفكري منذ تكلس النسخة الفقهية التي استمدت تصوراتها من القرن الثالث الهجري، وأمسى كل تجديد لها بمثابة انشقاق إلى مذهب أو تحول إلى طائفة دينية باطنية أو علنية زادت من تعقد المشهد الإسلامي وبؤسه بدل إغناءه وإثراءه إلى هويات قاتلة متصارعة).

إن المفارقة المزمنة للمسلمات/ين في الغرب العلماني يمكن تلخيصها برغبة معظم المسلمات/ين ترك بلدانهن/م ونظمها للعيش في كنف الدول الديمقراطية والعلمانية والتمتع بحقوق الإنسان، لما تمنحه تلك النظم من مساحات حرية وكرامة إنسانية طالما افتقدتها بلدانهن/م الإسلامية، إنهن/م يلجأون إليها ولكن يستمرون بتمسكهن/م الحاد بهوية خاصة تصل حد الانعزال عن مواطنيهم في تلك البلدان، وفي إشارة جادة لأزمة الاندماج بالمجتمعات الجديدة يمكن فهم تصريح ”ماكرون“ هذا وطرحه لمشروع قانون ضد ما أسماه بـ “الانفصال الشعوري”. حيث يهدف المشروع -كما قال- إلى “مواجهة التطرف الديني وحماية قيم الجمهورية الفرنسية”. إذ يعود مشروع القانون ليؤكد على ضرورة فصل الكنيسة عن الدولة، وهذا ما يشكل -كما هو معلوم- عماد العلمانية الفرنسية، ودعى إلى فرض رقابة أكثر صرامة على الجمعيات الإسلامية والمساجد الخاضعة للتدخل الخارجي، كما نص على “منع الممارسات التي تهدد المساواة بين الجنسين”، بما في ذلك “شهادات العذرية” التي تصرّ بعض الأسر المسلمة على استخراجها قبل الزواج في فرنسا.

يذكر أن وزير الداخلية الفرنسي قد أعلن بالتوازي مع تصريحات الرئيس: “أنه تم إحباط “32 هجوما” في فرنسا على مدى السنوات الثلاث الماضية، موضحاً أن ذلك “يساوي تقريبا هجوماً كل شهر“. وإذا أضفنا إليها تصريحات مفتي مصر الأخيرة عن الجيل الثالث للجالية المسلمة في أوروبا يمكننا إدراك حقائق فظيعة تكتنف واقعنا الذاتي قبل اتهامنا للآخر.

وكان شيخ الأزهر ”أحمد الطيب“ قد انتقد ما اعتبره إصرار بعض المسؤولين الغربيين على استخدام مصطلح “الإرهاب الإسلامي”. ذاهباً إلى تبرئة الإسلام من صفة الإرهاب ومتجاهلاً -لأسباب مفهومة- حقيقة وجود نسغٍ عنفيٍ مولّدٍ لهذا التطرف وبخاصة في إسلام المدينة/يثرب، حيث تكثر الآيات التي تشجع على العنف وكان كثير من الأئمة ومؤسسي الإسلام السياسي والجهادي المعاصر قد نهلوا منه الكثير في تكفير بقية الأديان والمذاهب أو تحقيرها على أفضل تقدير وصولاً إلى حكمهم بضرورة الجهاد في العالم كله حتى يكون ”الدين عند الله الإسلام“.

لم يطل مصطلح ”الإرهاب الإسلامي“ -الذي يتردد اليوم كثيراً- حقل العنف الجسدي فحسب بل تعداه إلى ميادين الإرهاب الفكري ومنع حرية الاعتقاد وقضايا المساواة والمرأة وسواد لغة الإقصاء وغياب حرية التعبير وحق الاختلاف، ويتعرض كل من تجرأ على نقد أو تجديد الفكر الديني إلى التجريم والتخوين والاتهام بالكفر والإلحاد، ويعزى منشأ كل الفصائل المتطرفة والمجموعات الإرهابية المنتشرة من طنجة إلى ماليزيا (القاعدة – داعش – النصرة – حزب الله – بوكوحرام – مليشيات الحشد الشيعي – زينبيون – فاطميون…) بأنها ”صنيعة الغرب ومؤامرة على الإسلام والمسلمين“، في إنكار وتطهرية عجائبية غارقة بالتفسير المؤامراتي للتاريخ وثنائية الخير والشر، حيث ”نحن الخير المطلق والآخر هو الشر المطلق، الذي مهمته فقط أن يتآمر علينا وما نحن إلا الضحية لمكائده وأحابيله“، وإذا وافقنا جدلاً أن القاعدة ومخلفاتها من صناعة غرف المخابرات الغربية وهي التي قامت على معاداة الغرب والحضارة الغربية، فالسؤال يأتي صارخاً: من هي دائرة المخابرات يا ترى ”التي صنّعت ابن حنبل وابن تيمية وفتاويهم، وابن القيم الجوزية وصولاً إلى محمد بن عبد الوهاب، وسيد قطب وغيرهم الكثيرين… ومن أين جاءت مثلاً فكرة انتزاع أطفال المناطق المهزومة أمام عسكر العثماني في السعي لتشكيل الجيش الإنكشاري الإمبراطوري من مقاتلين لا يعرفون لهم أباً أو أُمّاً أو أحداً غير الخليفة، مما صيّر هذا الجيش أعنف وأفظع جيوش العالم حينها“. ومن أين جاء فكر ”الغزو والسبي والاستعباد والجواري وحتى زواج القواصر“، وما هذا إلا غيض من فيض آن الأوان لتجريمه وفضح منافاته لأبسط حقوق الإنسان وليس الاكتفاء فقط بإلغاء تقديسه وتبريره. ففي هذا العصر حيث حقوق الإنسان وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي وسعت مدى حرية التعبير وسهلّت وصول المعلومة وسرعة تبادلها ومكنت من انتقادها وتقليبها وتطويرها وبلغت حداً لن تصله سيوف القمع وزنازين الحكام كسابق الأيام، في هذا العصر يمسي الإنسان مركزاً للكون ومحركاً له بآن.

بالواقع لا يمكن تفسير تهافت دفاعنا عن واقعنا المزري -الذي نعيش- سوى متلازمة عقدتي جنون العظمة (خير أمة أخرجت للناس) وجنون الاضطهاد، فنحن دوماً الملائكة والعظماء وبقية العالم كفرة وشياطين يهدفون إلى اضطهادنا وقهرنا وتركنا في أسوأ حال. والعالم من حولنا يكرهنا ويمارس علينا العنصرية، في الوقت الذي ”يقوم جوهر موقفنا على الفوقية والاستعلاء“ (وعلينا هداية البشرية) وهذا ”أشد أنواع العنصرية المضادة حتى ولو واجهتنا أحياناً عنصرية ما هنا أو هناك“.

ولابد ختاماً من الاعتراف أن الغرب الرأسمالي يعاني الكثير من التناقضات والسلبيات -وهي التي لا يتسع هذا المقال لسردها- لكنه يفسح المجال من خلال منظومة الديمقراطية، كثقافة ومنهج، لتفكيك التناقضات ومعالجة السلبيات وللتجديد وتصحيح نفسه وقبول الاختلاف والتنوع بصيغ المواطنة المتساوية وسيادة القانون وفصل السلطات واستقلالها، وهي الإدارة الملائمة لاستدامة التجدد وتجاوز الانغلاق الذي يسم اتباع العقائد والنصوص المقدسة.

 لعل مواجهة واقعنا وتفكيك عيوبنا اليوم تتطلب فعلنا نحن، وجرأتنا نحن، وتضحياتنا نحن، كما يتطلب أيضاً عدم انتظار ذلك من الآخر -وهنا الغرب الذي سيتدخل في غيابنا- كي نحل هذا الانسداد المزمن في دساتيرنا وتشريعاتنا، وليُحترم الدين والمعتقد كعلاقة روحية فردية خالصة بحيث لا يسمح بتعسف فرضه على الغير تحت أي حجة أو مسمى (كالهداية والوعظ أو السيطرة والتحكم).

كم نحتاج إلى تنقية التراث الإنساني الغني الذي قدمّه الإسلام، وكم مطلوباً إعادة قراءته بدلاً من محاولات نسفه كلياً، الأمر الذي يجعل محاولات التنوير تراوح مكانها، ولا تترك أثراً يذكر. فلدينا تراث مهم كبقية الأمم، ولابد من أن يكون هذا التراث -الذي هو كتابات بشرية بالطبع- غير مقدس كي يسهل نقده وتطويره على الدوام.

ولعل تصريحات ”ماكرون“ اليوم تشكل فرصة ذهبية لمراجعة الذات ونقدها، كما قال الشاعر محمد إقبال:

”كم عدو لك في الحق صديق

أنت بالأعداء ذو غصن وريق

يوقظ الخصم قواك الهاجده

مثل ما تحيى الموات الراعده“

 

وسيم حسان – الحركة السياسية النسوية السورية

الثلاثاء ١٣ – تشرين الأول – ٢٠٢٠

الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة