العالم بعد ترامب
تتجه انظار العالم كل 4 سنوات إلى الولايات المتحدة الامريكية وانتخاباتها الرئاسية، لما للولايات المتحدة الامريكية من دور ومكانة عالميين، إلا أن الانتخابات الرئاسية الامريكية الحالية للعام 2020 عدت بحق سابقة تاريخية من حيث حجم الاهتمام العالمي ومن حيث التغطية الإعلامية ومن حيث التوقعات والتكهنات بنتائجها وتداعياتها، علاوة على حدة الصراع غير المسبوقة بين المتنافسين جو بايدن ودونالد ترامب وبين انصارهما، حيث كان الإقبال على المشاركة في الانتخابات غير مسبوقا بين انصار الفريقين.
لقد أظهرت الانتخابات الرئاسية الأمريكية بشكل أولي:
– مدى الانقسام الحاصل في المجتمع الأمريكي حيث إن نتائج الاقتراع متقاربة جداً وهذه لربما تكون اعتيادية استناداً على نتائج الانتخابات الرئاسية السابقة ولكن ما هو غير اعتيادي الإقبال غير المسبوق على المشاركة وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على رغبة كلا الطرفين على الحسم باتجاه ما يصبو إليه.
– انتخاب امرأة كنائب للرئيس وهذه سابقة في الولايات المتحدة، ليس لكونها امرأة فقط وإنما امرأة من أصول سوداء وأسيوية.
– بروز الهوية المتعددة للمجتمع الأمريكي من خلال نجاح نسبة معقولة من السود والملونين والنساء.
– التشكيك بالنظام الديمقراطي الأمريكي وخاصة تلك المتعلقة بالتعقيدات القانونية للانتخابات.
إن بناء السياسيات الداخلية والخارجية في الدول الديمقراطية لا تقوم عادة على منصب رئيس الدولة فقط وإنما هناك مؤسسات وهيئات مختصة ترسم السياسات وتشخص المصالح، ولكن، في الانتخابات الرئاسية الامريكية الحالية، قد يكون الوضع مختلفاً بعض الشيء لما تمتع به الرئيس الأمريكي الحالي، المنتهية ولايته، بصفات وخصائل غير معهودة، بالإضافة الى اللحظة الانتقالية التي تمر بها أمريكا من حيث الانقسام العمودي في المجتمع الأمريكي وتباين وجهات النظر الواضح في قضايا مجتمعية حساسة كالعنصرية والتهميش والبيئة وقضايا حقوق الانسان علاوة على جائحة كورونا، حيث الإصابات تجاوزت كل التوقعات ومالها من آثار كارثية على الاقتصاد وسوق العمل.
ستكون استراتيجية الإدارة الجديدة بالنسبة للداخل الأمريكي منصبة على جائحة كورونا وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية والعمل على إيجاد مخارج للانقسام المجتمعي الأمريكي الحاد، ولاشك أن عهد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب يدشن منعطفاً تاريخياً ليس فقط أمريكياً فقط وإنما عالمياً أيضاً، رغم ان المتغيرات التي بدت واضحة بفجاجة في عهد ترامب، على الأقل على الصعيد العالمي، ظهرت ملامحها الأولى في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، حيث بدأت الولايات المتحدة الامريكية تنكفئ داخلياً وبدأت بالتخلي رويداً رويداً عن بعض أدوارها المعهودة على الصعيد العالمي وبدأت باتباع سياسات جديدة بعض الشيء في النزاعات العالمية، مثل الاتفاق النووي مع إيران والتخلي العملي عن المشاريع الامريكية حول الديمقراطية في العالم، فقد تكون الولايات المتحدة الامريكية قد وصلت إلى قناعة بأن نهجها التدخلي العسكري عالمياً قد يكلفها ريادتها الاقتصادية في ظل الصعود المتنامي لاقتصادات الصين وروسيا وحتى الاتحاد الاوروبي بعض الشيء، وبان هذا النهج- رغم كلفته الباهظة- لا يحدث فارقاً نوعياً ملموساً وإنما يؤدي في معظم حالاته الى إعادة هيكلة الأنظمة الدكتاتورية والشمولية.
إن المتغيرات على الصعيد العالمي التي بدأنا نلحظها بوضوح كبير في السنوات العشرة الأخيرة خاصة ماهي الا انعكاساً في بعض حالاتها للمتغيرات البنيوية في دول ” المركز” العالمي.
إن النظام الديمقراطي الغربي عامة والأمريكي خاصة تم تدشينه في حقبة تاريخية معينة، لم يكن للسود والأقليات المهاجرة والنساء ذاك الثقل الذي نراه اليوم في هذه المجتمعات وهذا سيؤدي حتما الى حالة من التصادم او تناقض المصالح بين الفئات المجتمعية السائدة والفئات المجتمعية الصاعدة والمتنامية. وربما نستطيع ان نقول بان الانقسام العمودي الحاصل منذ عدة سنوات في المجتمع الأمريكي يعود الى تلك الحالة. لقد كان انتخاب بارك أوباما، كأول رئيس أسود، وترشيح هيلاري كلنتون للرئاسة، كأول امرأة يتم ترشيحها للرئاسة، رغم اهميتهما إلا ان ذلك لم ينعكس على البنية المجتمعية العامة مؤسساتياً وقانونياً وإنما بقايا بوادر ظاهرة خافتة تبحث عن مخرجاتها كي تنعكس على مجمل الحراك الاجتماعي والسياسي والقانوني.
لهذا نعتقد ان الإدارة الامريكية الجديدة، في حال تجاوزت التعقيدات القانونية التي تنتظرها في الأيام الحالية ستصب مجمل جهودها في هذا الاتجاه كضرورة موضوعية.
وقد لا يحصل تغيير كلي في مجمل السياسات الخارجية للولايات المتحدة الامريكية في عهد الرئيس المنتخب جو بايدن ونائبته كامالا هاريس وإنما ستتم العودة لبعض الاتفاقات الدولية والمؤسسات الاممية، التي خرج منها الرئيس ترامب كاتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية ولربما أيضا منظمة اليونسكو. وقد يعود العمل على “أوباما كير” وغيره من الإصلاحات الداخلية وبرامج تأهيل الشرطة التي وعد بها بايدن خلال حملته الانتخابية. كما نعتقد ان الولايات المتحدة الامريكية ستقوم في العهد الجديد بترميم علاقاتها مع الدول الصديقة والحليفة كالاتحاد الأوربي وتركيا، التي تأذت كثيرا جراء مواقف وسياسات الرئيس ترامب.
وستستمر، الى حد ما، بتلك السياسات التي تم بالعمل بها في عهد الرئيس السابق باراك أوباما ولربما ببعض التشدد في التعامل مع بعض القضايا والملفات الحساسة عالميا كالملف النووي الإيراني والكوري الشمالي والملف الاقتصادي والتجاري المتعلق بالصين.
اما بالنسبة للسياسة الامريكية في عهد الإدارة الجديدة بالنسبة لمنطقتنا فأغلب الظن بانه لن يحصل تغيير جذري وإنما سيتم الدفع باتجاه إيجاد حلول أممية من خلال الأمم المتحدة ومؤسساتها المعنية وسيبقى سلاح العقوبات الاقتصادية هو السلاح الأهم للضغط.
تيار مواطنة
المكتب الإعلامي 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020