تستحقّ ظاهرة الانشقاقات عن نظام الأسد، في المراحل الأولى من الثورة السورية، اهتمامًا توثيقيًا وتحليليًا، بسبب غناها ومفارقاتها وأثر التعامل معها على مسار الثورة.
كثُرت في بداية الثورة حالات الانشقاق، ومع الوقت بدأ خطّ تمايز وحساسية يتضح أكثر فأكثر، يقوم على أساس العلاقة السابقة مع النظام، ويفرز المنشقين عن سواهم داخل جسد الثورة. وبين خفوت وبروز، ظلّ هذا التمايز موجودًا على طول الخط. ولا يخالف الصوابَ القول إن الثورة هي، بحد ذاتها، انشقاقٌ عن النظام. ومن المعلوم أن نسبة ضئيلة من السوريين كانت تعلن معارضتها للنظام، فيما كان المجتمع السوري يعلن موالاته. ومع اندلاع الثورة، أعلن جمهور متزايد من السوريين “انشقاقهم”، وأظهروا ما كانوا يضمرونه من رفض. غير أن الكلام عن الانشقاق هنا، يخصّ المسؤولين في النظام (عسكريين وأمنيين ومدنيين) الذين كانوا، قبل انشقاقهم، يتمتعون بمزايا “المسؤولية”، ويُسهمون بدورهم في سير آليات النظام وتجديد طاقته.
خدمَت حالات الانشقاق عن النظامِ الثورةَ، معنويًا وسياسيًا، بوصفها شهادةً وتأكيدًا على أحقية الثورة وتفوّقها الأخلاقي، كما خدمت ماديًا بوصفها قناة تزوّد الثورة بخبرات ومؤهلات مجربة. ولكن إلى جانب الترحيب بالمنشقين الذين يهجرون ضفة النظام وينضمون إلى الثورة، كان هؤلاء، في العموم ومع الوقت، يتعرضون لتمييز سلبي، محركه الأساسي هو تناول الأمور من منظور ضيّق، وحساسيات تقوم على مبدأ ذاتي ومصلحي.
على الجانب العسكري، هُمِّش العسكريون المنشقون بتأثير عاملين: الأول هو إشاعة الشك حولهم وعدم الاطمئنان إلى ولائهم للثورة، بوصفهم “أبناء النظام”؛ والثاني هو عدم ملاءمتهم للرداء الأيديولوجي الديني الذي راح يحتوي النشاط العسكري المتصاعد. ويمكن إضافة عامل ثالث، إلى العاملَين السابقين، هو خوف مدنيي الثورة المتعسكرين من أن التفوّق المراتبي والمهني للضباط المنشقين سوف يحدّ من طموحاتهم القيادية (وقد رأينا كيف ازدهرت هذه الطموحات وإلى أين أفضت)، فكان من الطبيعي أن يميل هؤلاء إلى استبعاد الضباط المنشقين، بشكل خاص. وقد لاقى هذا الميل قبولًا لدى المموّلين الذين يميلون إلى التعامل مع أفرادٍ يكونون أقلّ أهليّة وأكثر طواعية، كما يميلون إلى التعددية الفصائلية التي تسمح لكل ممول “باقتناء” فصيل، وهذا مما لا يتماشى مع البنية الذهنية والعسكرية التي نشأ عليها الضباط المنشقون. هذا فضلًا عن تقاطع مصلحة الحلفاء مع هذا الميل، فقامول بتنفيذ المهمة على أكمل وجه.
النتيجة أن الضباط المنشقّين خرجوا من المعادلة إلى حد بعيد، وتحوّلوا إلى “سياسيين” أو محللين عسكريين، في أحسن حال، وسيطر على المشهد متعسكرون جاهزون للفساد المباح ولتبدية مصلحة المموّل على ما عداها.
على الجانب المدني، عرضت حالة الانشقاق مشكلةً من نوع آخر. حادثة الانشقاق بحد ذاتها مكسبٌ للثورة، والعناصر المنشقة هي في الغالب عناصر ذات كفاءة، ومن المرجح أن يكون إسهامهم مفيدًا لبلورة العمل المعارض لنظام الأسد. ولكن من جهة أخرى، يشكّل تبوّء المنشقين مواقع قيادية في المعارضة، ولا سيّما المواقع الأولى فيها، حرجًا للمعارضين المخضرمين. بعد سنوات نضال طويلة ضد نظام الأسد، لم يستطع هؤلاء المعارضون أن يمثلوا تطلعات شعبهم حين ثار، ويحتاجون إلى أحد “أبناء النظام”، كي يقوم بهذا الدور. وينتقص هذا الأمر ضمنًا من قدرات المعارضين التقليديين. الحق أن هؤلاء المعارضين الذين قضوا أعمارهم، في السجون والملاحقات الأمنية والاجتماعات السرية وقراءة الكتب، لا يمتلكون مهارة بناء العلاقات مع دول ومنظمات دولية، كما يمتلكها مسؤولون ممارسون في نظام. وفي الوقت نفسه، ليس لدى الدول، التي سعت لبناء علاقة “رسمية” مع المعارضة السورية، قابلية كبيرة للتعامل مع شخصيات لا تمتلك خبرة “رسمية”، ولا تتقن “فنون” الدبلوماسية.
أما من ناحية جمهور الثورة، فمن الطبيعي أن يكون في بال كل سوري أن المسؤول الذي انشقّ عن النظام، على أهمية انشقاقه وضرورة الترحيب به، ما كان ليصل إلى موقع مسؤول في النظام، لو لم يكن صاحب حظوة لدى أجهزة الأمن، وهذا يعني أنه على استعداد لتمسيح الجوخ وللإساءة وإيقاع الضرر بسوريين آخرين، حيث لا يستطيع السوري أن يتخيل مسؤولًا في النظام لم يكتب تقارير بزملائه، ولم يتسبب في نكبات لأشخاص ولعائلات، سواء أكان ذلك بدافع الوصولية، أم بدافع قناعة سياسية بالنظام والتزام بمكافحة معارضيه. قد يكون تعميم هذا الحكم ظالمًا لبعض المسؤولين، ولا سيّما لأصحاب الكفاءة البارزة التي يحتاج إليها النظام ويسعى للاستفادة منها، ويكفيه من صاحبها أن يقبل بالنظام كما هو. للمفارقة، ولأننا أمام نظام معمِّر، يخرج من دائرة الوصولية هذه “ورثة” المناصب الذين لا يحتاجون، بسبب انتمائهم إلى عوائل مسؤولين، إلى التسلّق على أكتاف زملائهم، بالوشايات والتقارير، ما داموا “واصلين” سلفًا.
إلى هذا، لا يستنظف الجمهور دوافع المنشقين، إذ يتساءلون: هل استيقظ ضميرهم فجأة على ظلم النظام، أم أنهم يريدون القفز من سفينة تغرق، كي يتابعوا امتيازاتهم في وضع جديد يرونه قادمًا؟
ولا شك في أن المنشقّ، من ناحيته، عانى حالة توتر داخلي، بين ماض حميم مع نظام الأسد، وحاضر مناقض لذاك الماضي. محرّك التوتر ليس فقط الانتقال الحدي بين موقعين متقابلين، بل أيضًا المحاكمة الضمنية التي يراها في عيون الآخرين، أو قد يسمعها على ألسنتهم. وقد عبّر أحد المنشقين عن هذا التوتر بنقد ذاتي قاس، إذ قال إنه كان كالببغاء تحت قبة مجلس الشعب. على أن المنشقين المدنيين كانوا، على كل حال، أكثر حظًا من العسكريين، ذلك لأن الدول “الصديقة” لم تتحفظ على المسؤولين المدنيين في النظام كما تحفظت على العسكريين.
قد يكون جزء كبير من الأحكام السابقة الذكر، حيال المنشقين، صحيحًا، لكن التعامل مع المنشقين من هذا المنظور ينمّ عن ضيق في الأفق، وتغليب لفكرة الانتقام على فكرة الثورة. في الأنظمة الشمولية، يصعب أن تتبلور معارضة ذات هيكلية وتجربة سياسية متصلة، هذا يعني أن عملية التغيير سوف تستند، بشكل لا محيد عنه، إلى الكوادر التي نشأت وتربّت في كنف النظام وكانت جزءًا منه. لا توجد حاضنة أخرى للكفاءات وتنمية الخبرات سوى النظام. وقد كانت تجربة التحولات الديمقراطية في بلدان المنظومة الاشتراكية مثالًا واضحًا على هذا القانون.
د. راتب شعبو – حرمون
13 كانون الأول/ديسمبر 2020
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع