الغوغائية والصراع السياسي
أظهرت الأحداث الأخيرة في واشنطن أثر السياسة الغوغائية بما تعنيه من استغلال مشاعر الناخبين وتحريضهم من قبل قائد سياسي لا يهتم إلا باستمرار وجوده في الحكم، ويمكن دائماً ملاحظة التأثير المتبادل بين الطرفين: تأثير الجمهور على القادة السياسيين وأثر هؤلاء على هذا الجمهور. وهذا يختلف، عن التأثير المتبادل، في الأوضاع الطبيعية، في الأنظمة الديموقراطية، عندما يسعى القادة لكسب الجمهور على أسس برنامجية وسياسات تنسجم مع الدستور والمبادئ العامة التي تم التوافق عليها ومع تعديلها وتطويرها ضمن المؤسسات والنظم الديموقراطية الراسخة بعيداً عن العشوائية والفوضوية والانقلابية التي تبرع في التدمير أكثر مما ترغب في البناء.
يقدم التاريخ الكثير من الأمثلة الصارخة عن أولئك القادة الذين استغلوا آليات عمل المؤسسات الديموقراطية للوصول إلى السلطة ثم عملوا على تدمير هذه المؤسسات لصالح سيطرة فرد ملهم وجروا بلدانهم إلى صراعات حادة، وإلى منعرجات تاريخية قاتلة، قد تكون أسوأها التجربة النازية في ألمانيا، لكنها لم تكن ولن تكون آخرها. و مع ذلك لا يمكن الذهاب بعيداً في مقارنة التجربة النازية مع ما حصل في واشنطن في السادس من كانون الثاني/ يناير 2021، وهذا يعود أساساً إلى الاختلاف الكبير في ظروف البلدين في كل مرحلة تاريخية، كما يعود إلى الفرق بين هتلر وترامب والبرنامج والمشروع الذي يحمله كل منهما، ذلك رغم التشابه في أساليب التحريض والعلاقة مع الجمهور واستثارة النزعات العنصرية والشوفينية التي تجلت في شعارات أمريكا أولاً وفي معادة المؤسسات الأممية ..الخ.
ليس كل الناس سياسيين، ولا تعمل الغالبية الساحقة منهم في السياسة، وجلّ ممارستهم لحقهم في العمل السياسي، في المجتمعات التي تتيح ذلك الحقّ، ينحصر في العمل في منظمات المجتمع المدني وفي ممارسة حق الاقتراع والانتخاب في المناسبات التي تدعو فيها السلطات المعنية بهذه الانتخابات الناخبين للإدلاء بأصواتهم. من هنا نشأت عبر مسيرة تطور المجتمعات الإنسانية الحاجة لفئة السياسيين المحترفين؛ بمعنى الفئة التي تعمل في الحكومة وفي الأحزاب الموالية للحكومة أو المعارضة على السواء، أو حتى الأفراد الذين يعملون من خلال بعض التعبيرات السياسية غير الحزبية وغير المنظمة في العمل المدني، والتي تمتلك تأثيراً ما على المجال السياسي العام كالإعلام المستقل أو الكتاب والفنانين.
يبقى أن نؤكد هنا أن الكتلة الغالبة من الناس (الشعب)، وباستثناء أزمنة الثورات أو الحراك الاجتماعي النشط، هي كتلة منفعلة تكتفي بما يقدمه لها هؤلاء المدعوون محترفي السياسة، خاصة وأن هذه الكتلة، وعبر العصور التي مر بها تطور المجتمع الإنساني، كانت منشغلة في تأمين سبل معيشتها وضمان مستقبل أفضل لأبنائها.
يبرز الدور الحاسم لهذه الكتلة مرتين؛ مرة في السلم من خلال الانتخابات، في الأنظمة الديموقراطية، والمرة الثانية في الثورات والحروب الأهلية والأزمات العامة، من خلال مشاركتها النشطة والحاسمة في تقديم المقاتلين لجميع أطراف الصراع، ويمكننا القول أن هذه الكتلة غالباً ما تُقاد من قبل الطرف السياسي الأكثر راديكالية بين المتصارعين على السلطة، والسلطة هنا تمثل التعبير الحاسم والنهائي عن هدف الصراع المعمم.
في الأزمة العامة الحالية التي خلقها الوضع الدولي العام، بالإضافة إلى الأزمة الاجتماعية الأمريكية الداخلية، كما لا يمكن إغفال الأزمات الصحية والاقتصادية الإضافية التي سببتها جائحة كورونا مؤخراً، ظهر دور هذه الكتلة الشعبية في تأييدها الفاعل والمتزايد في أنحاء العالم الأربعة للقادة اليمينيين والشعبويين في أوربا الغربية بداية (النمسا وفرنسا) ثم في الولايات المتحدة ولاحقاً في البرازيل وغيرها من البلدان التي صعد فيها اليمين الشعبوي غالباً إلى منصب رئيس بلدية أو حاكم ولاية أو حتى رئيس وزراء أو دولة.
في البحث عن الأسباب الخارجية صعود هذا اليمين الشعبوي لا بد أن نلاحظ أن صعود الإسلام الراديكالي في بلدان الربيع العربي وفي بعض المناطق الأخرى وارتدادات تلك الثورات- أزمة اللجوء وتصاعد الإرهاب- على القارة العجوز وعلى السياسة العالمية كانت من جملة الأسباب التي أدت إلى صعود هذا اليمين الشعبوي خاصة في ألمانيا، بالرغم من مناعة أوربا الغربية والولايات المتحدة المكتسبة مرتين- مرة بسبب الحروب الدنية في الكاثوليكية- البروتستانتية ومرة بسبب النازية والفاشية- ضد هذه النزعات.
أما الأسباب الداخلية في الغرب عموماً فيمكن اعتبار الأزمات الاقتصادية التي سادت منذ عقد في بريطانيا وفرنسا قد لعبت دوراً ليس قليلاً في ارتفاع أصوات اليمين الشعبوي الداعية إلى الانكفاء القومي- بريطانيا- وخفض الضرائب على الدخول العالية والالتفاف على السياسات الاجتماعية كالضمان الصحي والتقاعد ودعم السلع الأساسية وتغير طابع الصراع بين يمين ويسار تقليديين بسبب تضاؤل الفارق في السياسات الاجتماعية بين الطرفين وضياع هوية أو رؤية اليسار إضافة الى الكثير من حالات الفساد السياسي والمالي.. الخ وتحميل سياسات الدعم الاجتماعي مسؤولية الأزمة الراهنة وخصوصاُ في ظل تصاعد أسهم الصين في السوق العالمية.
على العكس من الرأي السائد في الممارسة السياسية، يمكن اعتبار القيادة السياسية العنصر الحاسم في الممارسة السياسية الصائبة أو الخاطئة، وأيضاً، قد تكون القيادة العنصر الحاسم في تشكل رأي عام متماسك ومنسجم وسلمي. من هنا يمكن اعتبار سياسات تيريزا ماي ودونالد ترامب وماري لوبين سياسات مؤثرة في أوضاع بلدانهم ويمكن بالتالي تحميلهم المسؤولية المباشرة عن تصاعد التوترات السياسية والاجتماعية والصدامات بين الجمهور المؤيد لسياساتهم والمؤسسات الأمنية والقضائية والسياسية في تلك الدول.
ويمكن اعتبار التحريض الذي قام به الرئيس الأمريكي السابق جريمة مكتملة الأركان في مواجهة المؤسسات الأمريكية، ويمكن بسهولة أيضاً ملاحظة أن ضيق الوقت والرغبة في احتواء التوتر والصدامات هي ما حال دون تقديم الرئيس إلى محاكمة برلمانية ولاحقاً إلى محاكمة قضائية.
هل يمكن القول “هذا ما يريده الشعب!” دون الوقوع في الشعبوية؟
هذه المقولة التي يستند إليها معظم السياسيين، سواء أكانوا في السلطة أم في المعارضة، يمكن اعتبارها عكازاً متعدد الاستعمالات؛ بمعنى أنه يمكن استعماله في أكثر من غرض وفي أكثر من اتجاه، فعند المعارضة يشير إلى نقمة الشعب على الحزب الحاكم، وعند السلطة يشير إلى رضى الشعب عن سياسات الحكومة، لكنه في الغالب يشير إلى الاستقواء بالطاقة الكامنة لدى الشعب، وليس أبداً إلى تفهم عقلاني وموضوعي لحاجات وإرادة هذه الكتلة البشرية. وقد تعتبر جميع توجهات الحكومات المتعاقبة في الغرب، منذ ما بعد الحرب الكونية الثانية، محاولة تأمين الحاجات الأساسية لهذه الكتلة البشرية لأنها- الحكومات- اعتقدت أنها بذلك تكون حكومات شعبية وبذلك تنزع فتيل الانفجار الاجتماعي وهذا ما حصل عموماً، لكنه لم يكن كافٍياً بكل تأكيد لأنه لم يسد الفجوة الواسعة مع العالم المتفجر في الدول الفقيرة والدكتاتورية والأنظمة الشمولية.
إذن بقيت المشاكل المتفجرة في تلك البلدان محفزات ومسببات حقيقية لأزمات الغرب، بالإضافة إلى المشاكل الذاتية النابعة من تناقضات النظام، ويبقى أن غياب الإرادة الدولية الصادقة، عن إدارة الأزمات على المستوى الدولي، هو أحد أهم أسباب تفاقم واستمرار هذه الأزمات، ويمكن القول بثقة أن الفشل الدولي في علاج هذه الأزمات قد يسبب حروباً كارثية جديدة وقد لا يمكن احتواؤها لعقود تطول.
الكتل الشعبية في كل العالم بحاجة ماسة لسياسيين عقلاء وإنسانيين، بالإضافة إلى القوانين والمؤسسات، يقودونها إلى مستقبل أفضل للبشرية جمعاء، ويكفي أن نستشهد بالأثر الكارثي لرأس النظام السوري، ليس على سوريا فحسب بل على المنطقة والعالم، لندرك الخطر الكبير التي تسببه مسألة القيادة السياسية على الشعب الخاضع لها وعلى الدول الأخرى.
تيار مواطنة
المكتب الإعلامي 26 كانون ثاني/ يناير 2021
زيادابوحمدان
كنت اتمنى ان يتطرق المقال الى الاشارة الى الوضع السوري وتاثره بالسياسات الامريكية من عهد اوباما الى عهد ترامب
محرر
شكرا استاذ زياد.
نعم يمكن توسيع المادة لتغطي كل هذه التأثيرات، لكنها ستصبح أطول من اففتاحية.
تحياتي