عن متلازمة الهزيمة ومراحلها الخمس- موفق نيربية
بعد انتخابات 2012 الأمريكية مباشرة، كتب مراسل «الغارديان» جوناثان فريدلاند عن قضائه لليلته يومذاك بين الحزانى، وكيف أن معظم الذين كان بينهم لم يدركوا أنهم كانوا في طريقهم إلى جنازة عندما توجهوا إلى قاعة الرقص الكبرى، في مركز مؤتمرات بوسطن ليلة الثلاثاء. على العكس من ذلك، كانوا يرتدون ملابس الاحتفال بالنصر. قبل ظهور النتائج الأولى، تمكن البعض من الابتسام. لكن في غضون ساعة أو ساعتين، بمجرد أن تحولت الخريطة الانتخابية إلى اللون الأزرق الديمقراطي، حيث كان من المفترض أن تتحول إلى اللون الأحمر الجمهوري، تحول الجو إلى جنائزي. قامت فرقة بعزف لحن أو نغمتين، لكن لم يشعر أحد بالرغبة بالرقص. ما بدا في تلك الليلة للحزب الجمهوري، عمليةٌ مألوفة لكل من لاحظ هزيمة انتخابية. فكر في الأمر على أنه المعادل السياسي لمراحل الحداد الخمس، تلك التي تثير أعمق اﻷسى هي الهزائم المتتالية والضربات الذي لم تتوقعها».
خسارة ثورة شعبية عارمة تحمل ملامح الانتصار منذ أيامها الأولى، أكبر بما لا يقاس من خسارة انتخابات بالطبع… فكيف بخسارة فصل ربيع من الثورات، أو ما يبدو كذلك تقريباً. قد يكون ممكناً هنا مراجعة مراحل حالة رد الفعل على المصيبة أو الموت ومقارنتها بحالتنا.
1ـ مرحلة الإنكار ورفض التصديق: هذه أكثر المراحل والمواقف إغراءً وإغواءً. يتمّ فيها إنكار الهزيمة واستسهال نفي وجودها من أساسه. ثمّ يجري البحث عن شهود ووثائق تدعم هذا الرأي، بل يجري إعداد بيانات وعرائض، ودراسات وأبحاث، وتأسيس لغرف حوار ولجان تحضير لمؤتمرات، كلّها لدعم فكرة استحالة الهزيمة وانعدامها. تلتقي تلك المحاولات على الطريق مع أصحاب نظرية المؤامرة، والعقلية الاستخبارية، والعاجزين عن التقاط الأنفاس التوقّف بالعطالة وآلية الحركة.. إنهم الذين يستسهلون الحلم ويفضلونه على كابوس الفكر والعمل.
لدى العديد من السوريين حالة إنكار أن ثورتهم قد هُزمت، ويستمرون على بعض عادات الثوار، وكأنهم على ظهور خيلهم ما زالوا
لدى العديد من السوريين حالة إنكار مشهودة، لا يرون بسببها أن ثورتهم قد هُزمت، وأنهم قد هزموا، ويستمرون على بعض عادات الثوار، وكأنهم على ظهور خيلهم ما زالوا. وبسبب ذلك، يخسرون الكثير من الوقت الثمين، ويخسرون قدرتهم على الرؤية أيضاً، وهي أهم ما يلزمهم في مثل حالتهم. ومرّ مثل هذا على بعض ثوار 1848 في أوروبا، وألمانيا على وجه الخصوص.
2 ـ مرحلة الغضب: حين يرى المنكِرون أنهم يكلّمون أنفسهم في المرآة عبثاً، يداخلهم غضب عارم، يتوزّع في اتّجاهات شتّى. وأوّل ما يصبّون غضبهم عليه نخبهم بذاتها، التي يرونها مسؤولة عمّا وصلوا إليه. وليس هذا خطيئة ولا خطأ، بل هو من «حق» تلك القيادات التي ارتكب أفضل ممثليها من الأخطاء ما ينبغي أن يُحاسبوا عليه، في حين تدهور أسوأهم إلى الارتهان للقوى الخارجية، أو إلى أحضان «العدوّ» ذاته، بطريقة مموّهة أو مباشرة. يتمظهر ذلك الغضب أيضاً في الإغراق في التطرّف، الذي يصل إلى حدود التعاطف مع قوى إرهابية وإجرامية من نوع «داعش» أو «القاعدة» وكذلك في الإمعان في تجميل الطائفية والعشائرية والعنصرية، وإظهارها جميعاً كمجرّد ردّ فعل على موقف الخصم وعلله وأمراضه. لكنّ الظاهرة التي تسم جميع الغاضبين هي استخدام المفرقعات اللفظية، والمسارعة إلى اتّهام البعض للبعض الآخر بأكبر التهم وأكثرها شناعة وقبحاً. وأصبح مألوفاً أن تجد هنا وهناك من هو غير مؤهّل بالوعي أو المعرفة، أو التاريخ الشخصي والكفاءة بحدّها الأدنى، فيستخدم بضع جملٍ جاهزة وتراكيب متكررة، ويتقدّم الصفوف على رأس فصائل مزعومة ومتخيّلة على الأعمّ الأغلب.
يغضب البعض أيضاً حتى يرى في فلسطين والقضية الفلسطينية مثلاً مجرّد مزاحم صغير، ينبغي له أن يتنحّى أمام التناقض الأكبر والأكثر حسماً، الذي يعيشه هو مباشرة… ولا يجد هناك من حديث إلّا كون إسرائيل واحة للديمقراطية والحداثة، وحتى حقوق الإنسان، حين تُقارن بما يواجهنا به حكامنا من عنت وعنف وحقد أعمى. لا يعرف الغاضب كيف يفصل أو يصل الأمور، ولا متى يفعل ذلك أو لا يفعله.
3ـ مرحلة المساومة، أو ماذا لو؟: ماذا كان سيحدث لو قمنا بإسعاف المريض في لحظة أبكر؟ وماذا لو رفضنا عون الداعمين منذ البداية واعتمدنا على أنفسنا وحسب؟ وماذا لو أننا لجأنا إلى حرب العصابات وتجنّبنا حروب المدن واحتلالها؟ وماذا لو قام الثوار الشبان بتشكيل قيادتهم السياسية مباشرة، ولم ينتظروا شيوخ المعارضة وسياساتهم؟ أو ماذا لو كان المعارضون أقلّ أنانية وتوجّهوا بإخلاص حقيقي إلى بناء رؤية عملية للتغيير، واستراتيجية قابلة للحياة لتنفيذها؟ وماذا لو أن القيادات الرسمية المعارضة لم تنهمك في صراعاتها واستقوائها بالخارج، واعتبرت أن جوهر العمل السياسي طموحٌ شخصي أو حزبي، وليس التزاماً كفاحياً كما ينبغي له أن يكون في حالتنا؟ وهل كان من الأفضل لو انتظرنا أكثر ولم نستعجل التغيير حتى غرقنا في السلاح والأسلمة، ثم وقعنا في إسار التطرّف؟ هنا ندرك ونعرف أن «لو» هذه تفتح الأبواب لشياطين الأرض.
4 ـ مرحلة الاكتئاب: وتصيب هذه المرحلة الجميع غالباً، حتى من هم أسرى لأنانيتهم وانتهازيتهم.لكنّ الأخيرين يستطيعون الخروج منها أو التنفّس خارجها أحياناً، بحيث لا يفقدون امتيازاتهم ومكاسبهم. في حين يغرق فيها معظم الثوار والمعارضون، يجترّون خيبتهم وفشلهم وإحساسهم بالذنب، إن أحسّوا به. ولدينا نحن السوريين عشرات الآلاف من هؤلاء، ابتداءً من الثوار الأوائل الذين انزاحوا جانباً أو خارجاً منذ أواخر العام الأول للثورة، إلى أولئك الذين استمرّوا يحاولون عبثاً أو عجزاً حتى العام الخامس، أو أولئك الذي استمرّوا على مواقفهم ومواقعهم يناضلون «من الداخل» حتى يتجنبوا حالة التقاعد التي يعجزون عن التعايش معها بعد طول «احتراف»؛ وكأنّ الدنيا قد خلت من إمكانيات للعمل ما لم تكن في إطار «سلطة المعارضة». لعلّ أشدّ أنواع ذلك الاكتئاب فتكاً ذلك الذي يصيب النمط المثقف، الذي كان قد هجر وجوديته قديماً، ليعود إليها تائباً. وانظر حولك في أوروبا وحتى في المهاجر القريبة تجد عدداً كبيراً من هؤلاء المكتئبين.
ـ مرحلة الرضا والقبول: يبقى كثيرون في إسار حالة الاكتئاب نهائياً.لكن، حين تكون الحالة طبيعية نسبياً، يستطيع المرء الخروج من اكتئابه – المؤقت- إلى حالة من القبول بالكارثة وتفهّمها، بل منطق حدوثها. هذا القبول هو شكلٌ من أشكال التسليم والإذعان، أو لعلّه «الرضا» في تسمية أكثر لطفاً وعطفاً. يعرف أن الكارثة كانت شراً لا بدّ من وقوعه، وأن لذلك أسباباً ينبغي الحفر وراءها وتعيينها، سواء استوعبها لنفسه لتحقيق توازنه الداخلي، أو وضعها بالأسود على الأبيض للإسهام مع الآخرين بتظهير صورة ما حدث. تتضمّن المرحلة الخامسة ملحقاً جانبياً يعتبره البعض «مرحلة الأمل»… وهو في حالة المصيبة الفردية استعادة للحياة وإقبالٌ عليها وتأسيسٌ لفصل جديد فيها؛ في حين يبدو في حالة الكارثة العامة مفتاحاً للتفكير من جديد خارج الصندوق، ومحاولة التخلّص من كلّ قيود العقل وغبش الرؤية والوعي، والتأسيس لمرحلة جديدة من العمل على التغيير الشامل العميق والممكن. ذلك ممكن وطبيعي لدى الشعوب بعد كوارثها، بتداخل عشوائي ومراحل – حالات- لا ينفصل بعضها عن بعضها الآخر، كما ورد أعلاه بتبسيط مقصود..
موفق نيربية كاتب سوري