“أنتم جميعاً إخوة” إنجيل متى
الفاتيكان دولة لا تتوفر لها جميع العناصر القانونية للدولة، وهي بالتالي لا تمتلك القدرة في التأثير على العلاقات الدولية، انطلاقاً فقط من أهمية شخصية البابا الدينية والدبلوماسية. وفقاً لاعتقاد، لا يمكن الركون إليه، سائد شعبياً، حتى عند بعض النخب، فإن البابا مجرد مستكشف أو أنه مكلف بنقل رسائل من الدول الغربية أو التمهيد لسياسات متوقعه، وبالتالي لا يمكن النظر إليه بصفته صاحب رسالة خاصة.
نظرياً تشمل السلطة الدينية للبابا أكثر من مليار مسيحي كاثوليكي، ولكن لا يمكن لعاقل أن يفكر أن هؤلاء يشكلون حتى مجرد أداة تأثير في الرأي العام، فهم يخضعون في مجال فعلهم السياسي لحكوماتهم المتنوعة، وربما في الأساس الكثيرون منهم لا يعتبرون بين رعايا الكنيسة، لأنهم ليسوا مؤمنين أصلاً، وارتباطهم بالكنيسة والبابا، في أحسن الأحوال، هو مجرد ارتباط رمزي أو فولكلوري.
البابا فرنسوا، اللاتيني الأصل، وصاحب بعض التصريحات الإشكالية عن جهنم وعن المثلية الجنسية، وبعد تصريحات لسلفه بنديكتوس عن الربط بين الإسلام والعنف، كان قد وقع مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في دبي قبل سنتين، ما سمي بـ “وثيقة الأخوة الإنسانية” التي تتضمن مبادئ “السلام واحترام الغير وتحقيق الرفاهية بديلاً عن ثقافة الكراهية والظلم والعنف”.
ليس هذا فحسب بل هو كان مهتما بقضايا عالمية تخص الإيغور والروهينغا والإيزيديين، وكان مهتماً “بوضع حد لانتشار الأسلحة في كل مكان، ولدور المصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين”
وعن النساء قال البابا فرنسوا بمناسبة يوم المرأة العالمي وهو يغادر العراق “أودّ أن أشكر من عمق قلبي كلّ الأمهات والنساء في هذا البلد، النساء الشجاعات اللواتي يواصلن إعطاء الحياة بالرّغم من الانتهاكات التي يتعرّضن لها والجراحات التي تصيبهنّ. فلتحترم النساء وليمنحن الحماية! ليحظينَ بالاهتمام ويُمنحنَ الفرص”.
وعندما سئل البابا عن إمكانية القيام بزيارة رسولية إلى سورية عبر عن “قربه من سوريا الحبيبة والجريحة التي يحملها في قلبه”.
لكن المقاربة الأكثر أهمية للبابا فرنسوا، والتي تنقل الخطاب الديني من المجال الروحي إلى المجال الدنيوي، إذا صح التعبير، هو ما نقل عن أن الزيارة إلى العراق، التي شملت بغداد وإربيل والموصل، هي “بداية عمل وتواصل بين المرجعيتين الدينيتين لتثبيت التعاون المشترك من أجل قيام دولة المواطنة والدولة المدنية، والتعاون الديني والإنساني على صعيد العالم، لمواجهة التحديات التي تواجه الإنسان والأديان في العالم في هذه المرحلة.” إن تصور الحلول لقضية المسيحيين في العراق ليس فقط في المجال الإنساني والديني بل في إطار المواطنة هو الحل الأفضل، ليس فقط لوضع المسيحيين بل لوضع جميع مكونات الدولة العراقية، في مواجهة محاولات، داخلية ومدعومة خارجياً من إيران، لتكون الدولة العراقية امتدادا لدولة ولاية الفقيه الإيرانية.
وهنا يمكن الانتهاء بالتعرض لقضيتين الأولى هي التقليل من أهمية الزيارة أو انتقادها من قبل بعض المقربين من إيران، باعتبارها تدعم معنوياً مرجعية النجف على حساب مرجعية قم، مع أن ذلك، حتى إن حصل موضوعياً، فهو ليس توجهاً مدروساً ضد قم، كما توحي به التغريدة التي أطلقها مستشار رئيس البرلمان الإيراني، والتي ذكر فيها أنه لولا تضحيات أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني لما استطاع البابا دخول العراق. والقضية الثانية هي التساؤل عن إمكانية تحويل الدعم الروحي للبابا إلى دعم حقيقي يساعد في إعادة المهجرين وإعادة بناء مدنهم وقراهم. وهذه هي المهمة المطروحة على العراقيين من أجل الاستفادة من هذا الدعم وإيجاد الطرق الفعلية لتثميره واستمراره.
إن دور المرجعيات الدينية والروحية يمكن أن يكون لصالح البشرية، إذا تعامل مع القضايا الملموسة المتعلقة بالحقوق الأساسية للإنسان، التي تعتبر أفضل ما أنتجه الضمير العالمي، بطريقة منسجمة، وبالمعايير نفسها لجميع الشعوب والديانات والطوائف، ولا يمكن أن يكون هذا الدور لصالح البشرية، إذا اكتفى بشعارات الحوار بين الأديان، الذي ليس له أي معنى، وبشعارات التعايش والأخوة الكاذبة، التي يرددها بعض رجال الدين في المحافل العامة، ثم يعودون إلى ترديد كل ما من شأنه التحريض على الكراهية وعدم قبول الآخر المختلف دينياً أو اجتماعياً أو جنسياً أو عرقياً.
أخيرا وعلى عكس ما قاله الرئيس السيسي، الذي لا يراعي لا قيماً دينية ولا قيماً إنسانية، في معرض رده على ماكرون بشان موضوع الكاريكاتير في فرنسا، إن القيم الإنسانية أعلى وأكثر أهمية من القيم الدينية، وبمقدار ما تستوعب الزعامات الدينية والروحية هذه الحقيقة فإنها تساهم في تطوير العلاقات بين الدول وبين الأفراد في اتجاه السلام والتعايش والتفاعل وقبول الآخر.
تيار مواطنة
المكتب الإعلامي 10 آذار/ مارس 2021