“الأقلية والأكثرية” والمواطنة
يثير مصطلح “الأقلية والأكثرية” بعض اللغط حول استخدامه، وليس حول معناه ودلالاته التي تبدو واضحة، هذا ما يمكن ملاحظته في الظاهرة الجديدة نسبياً والإيجابية عموماً، في النقاشات بين الناشطين والمنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تصل إلى درجة رفض البعض استخدامه باعتباره مهيناً أو مسيئاً، أو باعتباره يبخّس حقوق أجزاء أو مجموعات من سكان البلد الأصليين والذين يقيم أجدادهم منذ عصور سحيقة على هذه الجغرافية على حد تعبيرهم، ويقترح البعض مصطلحات أخرى بديلة مثل المكونات، أو طرقاَ أدبية في التعبير ليس لها معان واضحة ومحددة.
يحدد الدكتور أحمد برقاوي تعريفه للمصطلح كما يلي: “ينتمي مفهوما الأكثرية والأقلية إلى حقل العلوم الإنسانية: علم السياسة والسوسيولوجيا والثقافة والأتنولوجيا (علم الأعراق). إنهما يدلان على كم ٍ كيفي. فالأكثرية والأقلية ليستا مجرد عدد كمي من الأفراد، بل هما مفهومان كميان كيفيان يشيران إلى نمط من الوعي والهوية.”
بداية يمكن القول أن مرجعية تعريف الأكثرية والأقلية هي مرجعية عددية مقارنة، هي بهذا المعنى محايدة ولا تحمل أي حكم قيمة مسبق فكري أو سياسي، لكنها اكتسبت مضموناً تم تكريسه في إعلان الأمم المتحدة لعام 1992 بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية الذي يعتبر المحدد الأساس الذي يوجه أنشطة الأمم المتحدة في هذا المجال، كما جاء في إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الأقليات.
والسؤال الذي يخطر على البال: أية نسبة عددية تسمح بالقول أن مجموعة ما إثنية أو قومية أو دينية هي أقلية، بالطبع لا يوجد معيار محدد، وإذا تقاربت أعداد المجموعات القومية في بلد ما قد لا يكون لتعبير الأقلية والأكثرية من معنى.
وبالطبع يمكن التمييز بين أقلية-أكثرية مجتمعية وأقلية-أكثرية سياسية، فالأولى لها درجة من الثبات النسبي عبر التاريخ ومجالها هو المجتمع، في حين تشتغل الثانية في الفضاء السياسي وتتغير خلال فترات زمنية، قصيرة عموماً، تختلف وتتنوع حسب الأوضاع السياسية المعنية.
إذن أصل التسمية هو حقل العلوم الإنسانية، وتعبير الأقلية هو تعبير نسبي وليس صفة عضوية ترتبط بمجموعة ما عرقية أو قومية، فالمسلمون هم الأكثرية في باكستان لكنهم أقلية في الهند والعرب والكرد هم أقلية في إيران، والعرب الفلسطينيون كانوا الأكثرية في فلسطين حتى عام 1948 ثم أصبحوا أقلية…الخ. الموضوع ببساطة يتعلق بالعدد والعدد لا يمكن إهمال قيمته، فعدد المجموعات البشرية ارتبط تاريخياً بحروب وصراعات ومجازر وتهجير، ولا تزال أجزاء من العالم تخضع بين فترة وأخرى إلى تغييرات في عدد المجموعات البشرية، وربما يترتب على ذلك تغيرات سياسية وتغيرات جغرافية بعضها يكون هشاً وضعيفاً وغير متناسب مع التوازنات الدولية، وبعضها يكتب له الثبات والاستقرار بغض النظر عن تقييمه كظلم وإجحاف وانتقاص حقوق لبعض الشعوب أو المجموعات البشرية.
هل يتناقض مفهوم الأكثرية والأقلية مع مفهوم المواطنة؟
إن الدولة القومية التي تشكلت بعد صراعات وحروب، ومرت بفترة طويلة من الاستقرار السياسي، يصبح فيها الفرد المواطن هو الأساس وليس انتماءه القومي أو الديني أو العرقي أو الجنسي أو الطائفي أو كائناً ما كان انتماؤه إلى أي مجموعة. طبعاً هذا على مستوى القانون وعلى مستوى الحقوق والواجبات الاجتماعية والسياسية، وأيضاً يمكن القول هذا على المستوى النظري، أما على المستوى العملي وفي الممارسة اليومية وكذلك في المستوى الثقافي، فإن بقايا القيم العنصرية والتمييزية تستمر في الوجود والفاعلية، كما أن الكثير من مواصفات المجموعات البشرية لها عطالة تاريخية كبيرة ولا تنتهي بسهولة، فمسألة الانتماء العرقي في الولايات المتحدة لم تصبح مسألة نافلة فيما يخص الأقلية السوداء أو الآسيوية، ودائما توجد أقليات تحافظ على خصوصيتها الثقافية رغم ما تشكله لها من سبب للاضطهاد الاجتماعي والسياسي و الاقتصادي أحياناً.
وفي أوربا تراجعت كثيراً قيمة التمايز على أساس الطائفة الدينية خاصة مع تراجع كبير لأعداد المؤمنين، لكن الموضوع الديني عاد ليكون موضع اهتمام، من خلال وجود الأقليات المسلمة تحديداً. كما لا تزال بعض القضايا الثقافية المتعلقة بالأقليات القومية ماثلة، ولم ينقض زمن كبير على انتهاء الحرب الأهلية في ايرلندا. وعلى توقف منظمة إيتا الباسكية عن الصراع العسكري، وفي السنوات الأخيرة تجدد النضال من أجل الانفصال في كتالونية في إسبانية…الخ.
ومنذ أيام أقر في فرنسا قانون اللغات المحلية وأنشد النواب البريتون، محتفلين، النشيد الوطني الخاص بهم في البرلمان الفرنسي في تأكيد جديد على أهمية احترام الخصوصيات الثقافية للأقليات باعتبار ذلك لا يتعارض مع قيم دولة المواطنة.
نعود إلى الدول التي لم تحقق الدولة “القومية” أو “الوطنية” وهو التعبير نفسه في اللغات الأوربية، لكنه عندنا ربما يحتاج إلى نقاش خاص ليس هذا مكانه، هنا لا يمكن القول أن دولة المواطنة، وخاصة في مراحلها الأولى، تلبي متطلبات الأقليات القومية كمجموعات بشرية فهي تلبي حقوقهم كأفراد أما مسألة الحقوق القومية فتحتاج إلى معالجة خاصة.
إن تسمية المجموعة البشرية أقلية لا ينتقص من حقوقها القومية الديموقراطية المقرة في المواثيق الدولية، وبالعكس هناك مجموعة من القوانين الأممية الهامة التي تهتم بحقوق الأقليات القومية لأنها عموماَ تعاني اضطهاداً وحرماناً من الكثير من حقوقها، ورفض مصطلح الأقلية أو إنكاره سيحرمها من تعاطف حقوقي وسياسي، مكرس في المنظمات الأممية، هي بأمس الحاجة إليه. بالمقابل فإن تعبيراً من مثل المكونات الذي ظاهره الحديث عن مكونات متكافئة ومتساوية يقنع الوضع الحقيقي لهذه المكونات ناهيك عن أنه لا يتمتع بأي قيمة حقوقية على المستوى الأممي. وبالطبع هذا لا يمنع من استخدامه في المنشورات السياسية، لكن النقاش هو حول محتواه ودلالته.
أخيراً نعتقد أن رفض هذا التعبير الحقوقي، ناجم عن حالة حماسية انفعالية أكثر مما هو قائم على رفض عقلاني ومحاولة اقتراح بديل مناسب، ذلك البديل المفترض لا يمكن أن يتم على مستوى خطاب سياسي أو حزبي، بل على مستوى نقاش فكري حقوقي، وهو يواجه استحقاقات كبيرة أمام المنظمات الأممية التي لا يمكن القول أن خطابها، في هذا الموضوع على الأقل، يخدم أغراضاً معادية للأقليات القومية خاصة في العالم كله.
إن حل المشاكل المتنوعة المتعلقة بالأقليات المجتمعية ممكن من خلال دولة المواطنة ومن خلال اعتبار حقوق وحريات المواطن الفرد هي الأساس.
أما قضايا الأقليات القومية التي هي قضايا تخص جميع السوريين، فإن الموقف الديموقراطي والإنساني من هذه القضايا هو معيار حقيقي لجدية أية قوة سياسية سورية، لذلك لابد من الاعتراف بالحقوق القومية للأقليات القومية في سورية من كرد وسريان آثوريين وتركمان، ولابد من حل جميع المشاكل المتعلقة بهذه الأقليات من خلال الحوار والنقاش وبالطرق السلمية ومن منطلق حقوقي أولاً ثم إنساني و ديموقراطي.
تيار مواطنة
مكتب الإعلام 14 نيسان/ ابريل 2021