٧٥ عاماً على الجلاء، أين سوريا فعلياً من الاستقلال
مرت منذ أيام الذكرى الخامسة والسبعون لجلاء القوات الفرنسية عن سوريا وغصّت وسائل التواصل الاجتماعي بأخبار الاحتفالات في مناطق سورية واقعة تحت سيطرة قوى أمر واقع مختلفة، خاصةً الاحتفال الذي جرى في هذه المناسبة في قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية، وذلك بوجود جمهور غالبيته من الجنود الروس داخل صالة غصّت بصور بوتين والعلم الروسي، مما يدفعنا للسؤال: أين سوريا فعلياً اليوم من الاستقلال؟
مع وصول الدكتاتورية المتمثلة بحكم الأسد إلى السلطة في سوريا، تراجع الاحتفال بعيد الجلاء، بعد أن خسر أهميته ورمزيته لصالح الاحتفال بالمناسبات التي تذّكر بوصول الطغمة الحاكمة للحكم، في حين بقيت جيوب ثانوية للاحتفال بيوم الجلاء تظهر هنا وهناك، أهمها الاحتفال مقابل مرتفعات الجولان، حيث دأب سوريات وسوريون على تكريسه من خلال التجمع هناك للتواصل مع أهلنا في الجولان عبر مكبرات الصوت والتذّكير بهذه القضية الوطنية التي كادت تصبح منسيّة.
حال أن انطلقت الثورة السورية عام ٢٠١١، أراد المتظاهرون التأكيد على أهمية الجلاء، فتظاهروا بما سمي حينها بـ”أحد الجلاء”، وسقط في حمص وحدها ثمانية متظاهرين سلمييّن، ليخرج مشيعوهم في اليوم التالي بتظاهرة كبيرة وليقوموا بأول اعتصام في تاريخ الثورة السورية في ساحة الساعة بحمص، ذاك الاعتصام الذي قُمع وفضّ بالقوة التي اعتمدها النظام حلاًّ أمنياً وحيداً في مواجهة الانتفاضة السورية.
بعد عشر سنوات من انطلاقة الثورة التي سريعاً ما تحولت إلى حرب أهلية ذات امتدادات إقليمية ودولية مركبة، حرب قسمت سوريا إلى مناطق نفوذ مسيطر عليها من قوى دولية وإقليمية متناحرة، يمكننا القول أن سورية تخضع اليوم لخمس احتلالات؛ فبالإضافة للاحتلال الإسرائيلي التاريخي لمرتفعات الجولان نرى اليوم احتلالاً روسياً وإيرانياً في مناطق سيطرة النظام، وكذلك احتلالاً تركياً واحتلالاً غربياً بقيادة أمريكية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
قبل أن نتناول آليات التعامل مع الاحتلالات في سوريا وطرق مقاومتها، ربما من المفيد الإضاءة على تجربتين تاريخيتين مختلفتين في مقاومة الاحتلال، على الرغم من أنهما لا تتطابقان مع شرطنا السوري، لكن استعراضهما ربما يضيء على الطرق الممكنة للتعامل من الاحتلالات.
التجربة الأولى هي التجربة الألمانية، فبعد خسارتها في الحرب العالمية الثانية، خضعت ألمانيا لاحتلالين قسماها فعلياً إلى بلدين، الأول تحت احتلال غربي بقيادة أمريكية، ليصبح فيما بعد احتلالاً أمريكياً منفرداً، والقسم الثاني تمّ اخضاعه للاحتلال السوفيتي.
في ألمانيا الغربية الخاضعة للاحتلال الأمريكي، اختار الشعب عدم مقاومة الاحتلال عسكرياً، والالتفات للعمل وتقوية الاقتصاد، ولكن الاحتلال نفسه ساعد في تنمية ألمانيا عبر “خطة مارشال”، وسرعان ما أصبحت ألمانيا بعد ما يقارب ٢٥ عاماً، من البلدان التي تحتل مركزاً كصاحبة أقوى اقتصادات العالم.
أما ألمانيا الشرقية التي كانت خاضعة بشكل كامل، سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً للحكم الشمولي في الاتحاد السوفيتي، فلم تحرز تقدماً يذكر، لكن ما أن انهارت المنظومة الاشتراكية حتى سارع الشعب الألماني لهدم جدار برلين الذي فصل جزئيّ ألمانيا، وأعاد توحيد بلاده، كانت هويتهم الوطنية الناجزة عاملاً مهماً في ذلك.
التجربة العراقية بالمقابل كانت تجربة مختلفة تماماً، فبعد خضوع العراق للاحتلال الأمريكي الذي أسقط نظام صدام حسين، انقسم الشعب العراقي في موقفه من الاحتلال؛ قسم منه لم يقاوم الاحتلال الأمريكي، لكنه استغله لتمرير أجنداته الخاصة التي من خلالها أصبح العراق يخضع للاحتلال الإيراني والذي تحاول اليوم حكومة الكاظمي التخفيف من هيمنته، قسم آخر اختار المقاومة المسلحة، مما سمح للإرهاب المتمثل بتنظيم القاعدة باستغلال الساحة وغزو العراق، والذي نتج عنه مشاكل أمنية واقتصادية لازالت تعاني منها البلاد، فيما قسم كبير من الشعب العراقي أبعد عن الحكم، ولم يسمح له بممارسة حقه الطبيعي، عداك عن حالة انعدام الأمان التي استغلها القسم الأول المذكور لتقوية نفوذ ايران من خلال ميليشياتها التابعة وعلى رأسها الحشد الشعبي.
يخبرنا التاريخ عبر هاتين التجربتين وغيرهما، إنّه في بعض الأحيان قد تنقلب المقاومة المسلحة وبالاً على البلد المعني بدلاً من أن تكون حلاً للتخلص من الاحتلال، وإن الاستسلام الشكلي في بعض الأحيان قد يسمح بالعمل على بدائل، مثل تقوية الاقتصاد في المثال الألماني، مع التأكيد على أن لكل بلد شروطه الخاصة الذاتية وكذلك شكل الاحتلال القائم وطبيعته وخصائصه، بالإضافة للظرف الخاص العياني في فترة الاحتلال.
بالعودة الى الوضع السوري، كنا قد ذكرنا سابقاً أن سوريا تخضع اليوم إلى احتلالات مختلفة ومتعددة، فهل تتساوى هذه الاحتلالات وهل يجب التعامل معها كلها بذات السويّة؟
من نافل القول إن رفض كل الاحتلالات هو أمر بديهي، وإنه ما من استقلال ناجز دون خروج كل القوات والميليشيات الأجنبية من كافة الأراضي السورية، لكن هذا لا يمنع من تصنيف هذه الاحتلالات وفق شدة خطورتها؛ الاحتلال الإيراني هو أخطر هذه الاحتلالات على الإطلاق، بالنظر إلى أن هيمنته على سوريا فهي جزء من خطته لاستعادة الهيمنة على الهلال الخصيب، مما يجعل سوريا مجرد بيدق تحركه المصالح الإيرانية دون أخذ المصالح السورية مطلقاً بعين الاعتبار، يأتي بعده في الخطورة الاحتلال التركي، الذي يدغدغ الأحلام العثمانية القديمة، والتي عادت لتحيا مع القيادة السياسية التركية الحالية، وما يزيد من خطورة الاحتلالين الإيراني والتركي هو حقيقة كونهما بلدين اقليمين، وبالتالي يمكن أن تتحول الهيمنة من قبل أيٍ منهما إلى احتلال ناجز أو قد ينتج عنه اقتطاع أراضٍ سورية وضمها بشكل كامل.
لا يختلف اثنان حول أن مثالي ألمانيا والعراق لا ينطبقان على سوريا، ففي حين أن المثال الألماني يخضع لأكثر من احتلال كما الحالة السورية، إلا أن الشعب الألماني امتلك هوية وطنية ناجزة بعكس السوريين، حيث لم يستطع السوريون إتمام عملية تشكيل هويتهم الوطنية التي بدأوها بعيد الاستقلال، فقد كسر الحكم الشمولي صيرورة هذه الهوية، من خلال اختزالها لهوية ” الولاء” للعائلة الحاكمة ثم جاءت الحرب التي نتج عنها المزيد من الانقسام والتشظي المجتمعي وبالتالي تشظي كبير في الهوية الوطنية، الأمر الذي قد يتحول لخطر محدق عند انحسار هذه الاحتلالات المؤقتة والزائلة لا محال.
قد يكون من النافل القول إن الوضع في سوريا أخطر من الوضع في المثال الألماني؛ احتلالين مختلفين، أو في المثال العراقي؛ احتلال من طرف واحد، انقسم المجتمع في التعامل معه. في الحالة السورية يتعمق التشظي والانقسام في ظل الاحتلالات المختلفة وتتعدد التبعيات لهذه الاحتلالات ويتعمق الاختلاف بين السوريين حول أيّها داعم وأّيها عدو وأيّها صديق، لندخل جميعاً كسوريين في دائرة مغلقة من الفعل ورد الفعل والتأثر والتأثير بفعل هذه الولاءات والانقسامات، لكن بالمقابل، ومن أجل التعامل مع هذا الواقع، هل يمكننا أن نحول التصارع والتناقض بين الاحتلالات إلى فرصاً للخلاص منها جميعاً؟
لكن هل يمكن لتعدد الاحتلالات على الرغم من خطورته الشديدة وفق ما أسلفنا، أن يتضمن ربما سبلاً للخلاص منها جميعاً؟ هل يمكن ان يكون اختلاف قوى الاحتلال وتصارعها فرصة قد تحمل في طياتها، رغم كل الخطورة السابقة الذكر، بذور الخلاص، فقد يكون هذا التواجه فيما بينها مفيداً للسوريين، فلولا الاحتلال التركي مثلاً، لسقطت كل المناطق الخاضعة له في قبضة النظام السوري من جديد، ولصار الخلاص من هذا النظام ومن الاحتلال الإيراني مستحيلاً.
إن ما ذكرناه آنفاً، يدعو السويين للتفكر، والتعامل مع هذه الاحتلالات كحالة عابرة في سوريا، وذلك عبر التعامل البراغماتي معها مع ضرورة رفضها استراتيجياً، واستغلال التناقضات بينها ليستطيع السوريون تمرير الحل السياسي الشامل، الحل الذي لا يخضعهم لأي منها، لكن ذلك يتطلب أولا من السوريين الولاء لسوريا فقط، والتعامل معها جميعاً على أرضية التقاء المصالح المؤقت، كما ويتطلب منهم بناء هويتهم الوطنية الجامعة، كي يعودوا للتوحد حال جلائها، وعدم الوقوع في فخ التقسيم. فهل ننجح في ذلك؟
تيار مواطنة
مكتب الإعلام 21 نيسان/ إبريل 2021