في دعاية الولايات المتحدّة حول دعم خيارات الشعوب الديمقراطيّة- نزار بعريني
وجهة نظر كتبها نزار بعريني
في متابعة لأفكار المقال السابق ، يتناول القسم الثاني بعض نتائج سياسات ” عداء الولايات المتحدّة الأمريكية الاستراتيجي ” لقوى واهداف التغيير الديمقراطي” لشعوب المنطقة عموما ، وللشعب السوري، بشكل خاص ، وما يتمظهر عنها،على صعيد الوعي السياسيّ ،من “إشكاليات ” ، تساهم في منع تبلور وعي سياسي ديمقراطي وطني موحِّد ، يشكّل غيابه اهمّ اسباب تمزّق وحدة الصف الديمقراطي السوري ، وتحول ، بالتكامل مع بضعة عوامل موضوعيّة ، دون الوصول إلى أدنى درجات توحيد القوى الديمقراطيّة . (١)
في رسالة موجهة لشعبه ،حول “إنسحاب” مزعوم لقوات بلاده من” افغانستان ” ، يقول الرئيس ” الديمقراطي جدّا ” ، السيّد الوقور ” جو بايدن ” :
” لقد ذهبنا إلى أفغانستان منذ حوالى 20 عاما بأهداف واضحة، ألا وهي القضاء على من هاجمونا في 11 أيلول/سبتمبر 2001، والتأكد من عدم تمكن القاعدة من استخدام أفغانستان كقاعدة لمهاجمتنا مرة أخرى. لقد حققنا هذه الأهداف،…
لم يكن من المفترض أن تتمثل مهمتنا في أفغانستان ببناء الدولة. لم يكن من المفترض أن نؤسس ديمقراطية موحدة مركزية“.
هي صراحة يشكر على البوح بها هذا الرجل الخبير ، الذي أدّى خدمات جليلة لسياسات طغمة بلاده الإمبريالية طيلة عقود ؛ بالمقارنة مع زعامات اخرى ، راوغت ؛ طبّلت وزمّرت ،طيلة عقود حول إلتزام المافيات السياسيّة والعسكريّة ” القيّمة ” ، على ديمقراطيّة العم سام بتعميم النموذج ، بنسخته الشرق أوسطيّه ، في محاولة لذرّ الرماد في العيون ، و إخفاء حقيقة العداء الإستراتيجي لأدنى فرص قيام انظمة ديمقراطية في قلب شرقنا العربي،حتّى على الطريقة الأدونيسيّة، لعدّة اسباب ودوافع، ترتبط بالمصالح فقط ، يأتي في مقدّمة همومها الإمبرياليّة وقوع هذه المنطقة المنكوبة في قلب ،ومحيط ، “مثلث النفط العالمي” !
إذ يعترف ” جوّ بايدن ” بأنّ ما صرفته بلاده من مليارات في افغانستان لم يكن هدفه بناء ” دولة ديمقراطية”، رغم كونها الحلّ الحقيقي، والبيئة الطاردة، لكلّ اشكال الارهاب ، والنقيض الجوهري لكلّ اشكال السيطرة الميليشياويّة ، فإنّه يؤكّد على حقيقة أنّ دولة المؤسسات الديمقراطية، المركزية، الموحّدة التي تخلق ظروف تجفيف منابع كلّ اشكال الإرهاب والتطرّف والظلم ، ليست شريكاً للولايات المتّحدة الأمريكية لتحقيق اهداف سيطرتها الإقليميّة !!
أعتقد أنّ ما تروّجه ادوات الدعاية الأمريكيّة السياسة الخارجيّة الأمريكية حول انحياز سياسات الولايات المتحدّة لخيارات التحوّل الديمقراطي لم يكن سوى إخراج مسرحي ،يفتقد إلى أدنى درجات الصدقيّة ، روّج له الأمريكان طيلة سنوات من اجل تقويض سلطات الانظمة الشموليّة ، الستالينيّة ، خلال حقبة الحرب الباردة ، وكانت ، وما تزال ، منطقتنا إحدى أبرز الساحات التي تفوّق الساسة الأمريكان في أداء لعبة العداء للديمقراطية !!
في الواقع ، يجد الباحث الموضوعي تناقضاً بين الخطاب الرسمي الداعم للديمقراطية ، وبين العداء المستحكم في الممارسة ، يؤكّد في إحدى جوانب القضيّة وجود انفصام حقيقي في شخصيات زعماء البيت الأبيض ، يظهر في الهوّة الكبير بين القول المؤيّد للديمقراطية ، والفعل المعادي ، لطّف وصفه المفكّر الأمريكي ” هنتينغتون ” ب ” مفارقة الديمقراطية ” ” democracy Paradox” ، وهي في تقديري السمة الأبرز في سياسات واشنطن الشرق اوسطيّة ، بشكل خاص ؛ وهو تناقض حقيقي ، بنيوي ، بين الإدّعاء والممارسة ، لايمكن تفسيره سوى بلغة المصالح :
اذا اخذنا بعين الإعتبار اشكال” التنظير الإيدولوجي”، والتضليل الإعلامي التي تستخدمها عموما القوى السياسيّة لإخفاء حقيقة الاهداف والمصالح التي تسعى عمليّا لتحقيقها ، أعتقد جازما أنّ
العداء الحقيقي للديمقراطية ، الذي مارسته واشنطن طيلة عقود وسنوات القرن الماضي، في قلب ، و محيط منطقة “مثلث النفط العالمي” الجيوسياسيّة ، بين ايران والعراق والسعوديّة ، يعود ، في سببه الجوهري، إلى وجود خشية مبرّرة ، موضوعيّة ، لدى قادة الطغمة الإمبريالية المهيمنة في واشنطن، من ان تسمح آليات عمل نظام ديمقراطي وطني، في حال غضوا النظر عن قيامه ، على طريقة الانتخابات السوريّة ١٩٤٧، بوصول قوى محليّة، ديمقراطية وطنية ، تعبّر عن ، وتمثّل، مصالح شعوب المنطقة ،وبالتالي تستخدم ثرواتها الضخمة ، وتنوّعها الحضاري التاريخي ، وميّزات شعوبها ، في بناء مقومات الدولة الوطنيّة ، وما ينتج عن هذا النهج من قطع شباك النهب والسيطرة الأمريكيّة ، وكف يدها عن خيرات ، وثروات المنطقة ، التي تستخدمها للتحكّم بسياسات شركائها في اوروبا واليابان ، وضبط سلوك منافسيها العالميين ، الذين تعتمد ماكينتهم الاقتصادية بشكل رئيسي على مصادر الطاقة في المنطقة!!
على صعيد الممارسة ، وفي اوروبا الشرقيّة ، ثمانينات القرن الماضي، على سبيل المثال ، دعمت واشنطن “ثورة ورديّة ” في جورجيا ، ٢٠٠٣ ، وتحالفت مع طغاة ” اذربيجان “، سلالة ” آلييف ” ، لأسباب تتعلّق بالنفط .
في ٢٠٠١ ، غزت “افغانستان “وأسقطت طالبان ،
بالتنسيق مع أشدّ اعداء الديمقراطية في ميليشيات ” التحالف الشمالي للمجاهدين “، و بالتحالف المباشر مع عملائها من انظمة الإستبداد الإقليمية، وفي مقدمتهم ، الديكتاتوريّة العسكرية الباكستانيّه ؛ بقيادة الجنرال ” مُشرَّف”، الذي كان الداعم الرئيسي لحكومة طالبان ، والذي أطاح بحكومة بلاده الديمقراطية بدعم من واشنطن، وبتحالف مع الأصولية الاسلاميّة الوهابيّة، ١٩٩٩ !!
مقابل ذلك ، على الصعيد النظري ، الاعلامي ، التضليلي ، كانت المنطقة الساحة التي اجاد فيها زعماء واشنطن ممارسة لعبة انفصامهم الشخصي .
في ثمانينات القرن الماضي ، برز برنامج الرئيس الأمريكي ، “اليمينيّ ” ، “رولاند ريغن” ، ” إشاعة الديمقراطية ” democracy enhancement “، كيافطة للخداع الإقليمي والعالمي .
في اعقاب غزو العراق ، ومع تزايد انفضاح كذبة ذريعة اسلحة التدمير الشامل ” وتمزّق “يافطة الارهاب” ، ولتضليل شعوب المنطقة والعالم حول الاهداف الحقيقية لغزو العراق ، انطلقت حناجر زعماء الادارة الامريكية ، وابواق مراكز بحوثها ،في العزف على أوتار الديمقراطية ، واصبح جورج بوش الابن المنظّر الأوّل إقليميّا، وعالميّا ، والمدافع العنيد عن قيم الحريّة والديمقراطية ، ومروّجا لأهميّة نشرها في المنطقة العربية ؛ لم يتفوّق عليه سوى خليفته “اوباما ” ووزيرة خارجيته ، السيّدة كلينتون !!
يتذكّر الجميع ظرافة اوباما وهو ينظّر في جامعة القاهرة عام ٢٠٠٩، عن مزايا نشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي، وقبله كبار الساسة والمستشارين في إدارتي “البوشين” ، الأبّ والأبن !!
ضمن هذا الاطار ، مارست واشنطن بعض الضغوط على عملائها التقليديين للحصول على بعض الإصلاحات ” التجميلية ” ، فحصلت الانتخابات البلدية في مملكة الرعب لاوّل مرّة في تاريخ حكم السلالة ، و أوصل “مبارك ” على مضض بعض من منافسيه الاسلاميين إلى قبّة برلمانه الديمقراطي العتيد ، عبر “انتخابات تعددية “، ….على الطريقة البعثيّة !!
في غزو العراق ، ٢٠٠٣ شكلّ النظامين الاستبداديين، السعودي والايراني ، اقوى حلفاء واشنطن . فقد تكامل الدور الميداني للميليشيات الطائفية الشيعية ” العابرة للحدود “؛ التي أطلقها ، و استخدمها، نظام الإستبداد الايراني ضدّ العراق طيلة سنوات،وباتت بعد الغزو اهمّ ادوات السيطرة الإيرانيّة مع ” مليارات” ” آل سعود ” ، الذين دفعوا أكثر من ثلثي نفقات الغزو ، في إنجاح المهمّة الأمريكيّة!!
الأخطر ، والاكثر اهميّة في رسم مستقبل ، وحاضر ، دول وشعوب المنطقة طيلة عقود ، مارسته واشنطن في مواجهة اهداف التغيير الديمقراطي لشعوب المنطقة ، في مطلع ٢٠١١. رغما عن أنوف المنظّرين والمروجين لخديعة الإنسحاب الإمريكي، ومسار الحل السياسي ، او المشاركين بهما من السوريين ، تؤكّد الحقائق الموضوعيّة بقيادة إدارة اوباما ل” حلف الإستبداد “، الذي تبنّى الخيار العسكري الميليشياوي، لمواجهة إستحقاقات ديمقراطية ، وأنتج قوى” الثورة المضادة” ، المعادية للتغيير الديمقراطي؛ مع شركائها في مراكز النظام الرأسمالي العالمي الإمبريالي، خاصّة الروسي ، و بسلطات أنظمة الاستبداد الاقليمية دون استثناء ، واذرعها الميليشياوية ، لتحقيق هدف تقاطعت حوله مصالح الجميع :
قطع سبل الإنتقال الديمقراطي، والحفاظ على اركان وادوات انظمة الإستبداد! (٢).
المؤسف هو استمرار “انخداع” معظم السوريين “في صفوف الثورة والمعارضة “، بنفاق المسؤولين الأمريكيين ، وعدم رؤيتهم للمظلّة الأمريكيّة الراعية والحامية لمايقوم به الشركاء والأدوات والأذرع ؛ الروس والايرانيين والميليشيات الطائفية المسلّحة، رغم معرفتهم بامتلاك واشنطن للقرار السياسي والعسكري النهائي ، والحاسم ، في تحديد شكل ومآلات الصراع ، وتقرير مصير قواه .(٣).
▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎
(١)-
من الطبيعي ان تعمل “الدعاية ” الأمريكيّة على إخفاء حقيقة نهج ، واهداف السياسات الخارجيّة الأمريكيّة، ( الرافضة ، بجميع الوسائل ، لأهداف وقوى التغيير الديمقراطي، والداعمة لقوى وادوات الثورة المضادة )، لتحقيق حزمة من الأهداف وضمان تحقق بعض النتائج؛
يأتي في مقدمتها خديعة و تشتيت قوى العدو ؛ هنا ،الشعب السوري ، وقواه الديمقراطية ؛ علاوة على تضليل الرأي العام الأمريكي نفسه ، الذي يُكره على تأييد السياسات الخارجيّة لحكّامه ، وحروبهم ” ضدّ الإرهاب “، مثلا ، درئا لأخطار ومخاوف غير واقعيّة ،تنجح في تصنيع مخالب قواها ماكينة دعاية ضخمة . في تغييبها لدور، ومسؤولية السلطة الأمريكية في حروب الثورة المضادة ، تسعى الدعاية الأمريكيّة ايضا لتبرأة حكّام واشنطن مما ترتكبه” ادوات ” الثورة المضادة من جرائم ، وانتهاكات لحقوق الإنسان .
من جهة ثانية ، يؤدّي ما تروجه الدعاية الأمريكيّة ، خاصّة حول تأييدها للتغيير الديمقراطي، وطريق الحل السياسي ، ومساندتها لقضايا السوريين العادلة، ورفضها للممارسات سلطة الاستبداد ، ليس فقط في تعزيز اوهام التعويل على مواقفها ، وما ينتج عنه من مفاقمة حالة التشظّي التي تمزّق السوريين ، وإضعاف دورهم في رسم حاضر ومستقبل سوريا ، الدولة الديمقراطيّة ، الوطنيّة ، وبالتالي يمكّن واشنطن من إعادة تدوير ادوات الإرتهان ، وبما يحافظ، في المحصّلة ، على آليات السيطرة الإقليميّة الإمريكيّة.
(٢)-
لقد قدّم الصديق العزيز ” أحمد علي محمد ” في مقاله الأخير ، ” التجربة التونسية.. دروس واستنتاجات” – موقع ” مواطنة، 18 – 8- 2021 “-، افضل ما يوضّح طبيعة علاقات النهب والسيطرة التشاركيّة بين سلطات الانظمة الإقليميّة وعرّابها في واشنطن ، ويفسّر طبيعة “حلف الإستبداد” ،قواه ، اهدافه ، ادواته :
《… إذا اردنا تعريف الاستبداد السياسي الأخير قلنا إنه الشكل السياسي الذي تتحقق به مصالح البورجوازية الكومبرادورية العربية وحلفائها في المراكز المتروبولية الغربية، والأصح أن نقول، هو الشكل السياسي الأمثل الذي تتحقق به مصالح المراكز الأمبريالية في الغرب وشركائها المحليين من بورجوازيات عربية تابعة تتمثل وظيفتها في نهب الفائض المحلي وتحويله إلى المراكز الأمبريالية، اي هو شكل الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة أو التحالف الطبقي المسيطر، بهذا المعنى يصبح الاستبداد السياسي ضرورة لأغنى عنها للحلف المذكور من أجل تأبيد مصالحه ودوام سيطرته، ولعل هذا التعريف أن يفسر لنا كيف تنادت كل القوى الإقليمية والدولية المعادية لتطلعات شعوب المنطقة لإنشاء ذاك التحالف الدولي غير المقدس، عقب قيام ثورات الربيع العربي من أجل إجهاض هذه الثورات ومنعها من تحقيق أي من أهدافها، عبر تحويل هذه الثورات إلى ثورات مضادة، أو دفعها دفعا إلى مزالق العنف والطائفية والاقتتال العبثي، وقد لعبت قوى الإسلام السياسي بكل أطيافه ( على المستوى الداخلي وبالتنسيق مع الخارج) دورا محوريا في عملية الإجهاض هذه، لقد شكلت هذه القوى في الواقع خشبة الخلاص للأنظمة المستبدة في مختلف الساحات.》.
(٣)-
لامست السيّدة سميرة مسالمة ” في مقال ،على صفحات ” العربي الجديد ” ، ٢٠١٧، بعنوان ” مفاجأة أمريكيّة للمعارضة السوريّة”، أعاد نشره موقع ” تيار مواطنة “، مؤخّرا ،بعض اشكال النفاق السياسي الأمريكي:
” أنهى المبعوث الأميركي،” مايكل راتني”، مهمته مع المعارضة السورية، بإصدار بيان تفصيلي حاد اللهجة، يكاد يرقى إلى صيغة الإنذار الأخير…، يحمّلها فيه مسؤولية السكوت عن جبهة النصرة…، وتغطية ممارساتها ومواقفها من الشعب السوري وثورته، معتبراً أن ذلك هو السبب الرئيسي وراء عدم مد الدول الصديقة أيديها لدعم الثورة السورية.”
ثمّ تُضيف :
” أما ما يتعلق بخطاب” راتني”، والموقف الأميركي عموماً من الثورة السورية، فهو ليس بتلك البراءة التي يدّعيها البيان المذكور، وليس منطقياً القبول بتبرير إحجام مجموعة دول “أصدقاء الشعب السوري”، وضمنهم الولايات المتحدة خصوصا، عن مساعدة السوريين بوجود فصيل إرهابي نما وكبر، أصلاً، تحت أنظار المجتمع الدولي، بل توافد عناصره من كل حدبٍ وصوب، من دون أن تعرقلهم حدود، أو تحد من حركتهم صحارى واسعة، مشوا عبرها من الشمال السوري حتى الجنوب، من دون أن تعترضهم رصاصة قناص أو برميل متفجر، في حين لم تفرغ السماء السورية من الطائرات التي تقذف حممها المدنيين في طول سورية وعرضها.”
٢٨-آب -٢٠٢١
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع.