كابول – غزة – إدلب: انتصارات/انكسارات – موفق نيربية
لا يبدو أن الهجمات الأخيرة على مطار كابول ستغيّر من الأمر شيئاً. وربّما يكون» الردّ القوي» الذي توعد به الرئيس الأمريكي قوياً، إلا أنه لن يستطيع ردّ القضاء، أو تغيير حقيقة ما يجري وسوف يكون.
لا شكّ في أن طالبان انتصرت في أفغانستان.. لا شكّ أيضاً في أن الولايات المتحدة حققت ما يشفي غليلها قليلاً أو كثيراً، ممّن وجّهوا ضربة برجي مركز التجارة العالمي، وآلاف الضحايا الأمريكيين في قلب نيويورك، إذا توجّه تفكيرنا بطريقة حقوقية، لا تزر فيها وازرة وزر أخرى، ويتركّز الغضب على «القاعدة» وأسامة بن لادن، وحتى طالبان، التي كانت حامية ومؤجرة بن لادن سكنه ومقرّه، فقد ترى المؤسسة الأمريكية أنها قد عاقبتها بما يكفي على تلك الحماية والإيجار، لعشرين عاماً، صبرت فيها طالبان واعتكفت، ودرست الأمور بعين مختلفة في درجة حدّتها على الأقل.
انسحبت الولايات المتحدة بناءً على اتفاق إدارة ترامب مع طالبان، مع غطاءٍ شفّاف بأن اتفاقاً مع الحكومة الأفغانية على تقاسم وترتيب السلطة والحكم سوف يلحق بذلك. وابتدأت تلك المفاوضات متأخّرة في الدوحة، لا تستطيع سباقاً مع عملية الانسحاب ذاتها، التي كان لسرعتها وتسارعها أن فكّكت لحمة الدولة والجيش بسرعة قياسية، حتى بدا كأن الناس ترجو أخيراً من طالبان أن تدخل كابول حتى تضمن الأمن، وتضمن أيضاً تأمين عملية الانسحاب ذاتها. ولكنّ غدر داعش خراسان كان بالمرصاد، لو كان غدراً. لن يستطيع جهد طالبان لتحديث صورتها أن يقنع أحداً، على الرغم من أن هنالك تغيّراً بالفعل بعد تجربة مرّة وطويلة مضت بين الجبال والكهوف، مع مصرف ومنتجع أتاحته إيران، خصوصاً مع احتدام مناكفات الاتفاق النووي والعقوبات الأمريكية، وتعارضات الجمهوريين والديمقراطيين. وبالضرورة والطبيعة سوف تعود أفغانستان في حضن طالبان ملاذاً لـ»القاعدة» و»داعش» وغيرهما. ولم تكن تفجيرات المطار مجرّد شفاء للغليل، بل هي إعلان لتلك العودة وتبشير بها، حتى في وجه طالبان نفسها لو تطلّب الأمر ذلك. ذلك» الانتصار» لاقى صدى كبيراً بين السلفيين الجهاديين والإخوان المسلمين في كلّ مكان، كلّاً يدّعي وصلاً بليلى، ولا بدّ من أن أوّل الأصداء جاءت من غزّة.. في القطاع المكلوم المتكوّم على سندان حماس، بانتظار المطرقة الإسرائيلية بين فينة وأخرى. وحماس ابنة شرعية لجماعة الإخوان المسلمين بجوار مركزها في مصر، كما أن طالبان ابنة شرعية للجماعة الإسلامية ومركزها الباكستاني. عاشت مرحلة طويلة تتجنّب اللجوء إلى المقاومة المسلحة، متفرّغة للدعوة والعمل الخيري والتربوي، حتى عصر الانتفاضة الأولى، التي يبدو أنها أقنعت بنجاح سلميّتها إخوان غزة أن يحملوا السلاح أخيراً، ويؤسسوا «حركة المقاومة الإسلامية»، بالكود الناجح «حماس»، ويبدأ مسار جديد يستجلب اتّهامات بالإرهاب تعقّد محاولات الجمع اللاحقة ما بين حكم غزة الطامح إلى حكم الضفة أيضاً، و»المقاومة» التي لم تجد طريقاً في تلك السنوات، إلّا طريق التفجير أو العمليات الاستشهادية/ الانتحارية. رأت حماس في سياسة المقاومة/ التأزيم مع إسرائيل أداة قادرة على دعم أسلوب الحكم الذي استنبطته، والذي يحاول تلبية متطلبات الديمقراطية الانتخابية والحاكمية في وقت واحد، تحت ظلال السلاح. كانت قادرة على الجمع بين كلّ التعدّديات الأخرى على النسق نفسه: بين تعليمها «الحكومي» وتعليم «الأونروا» وتعليمها «الأيديولوجي»؛ وبراغماتية الهضيبي والتلمساني، مع كفاحية السيد قطب المتفجّرة؛ بل إنها استطاعت أيضاً الجمع بين تأييد نظام الحكم «الشيعي» في إيران والحكومة التركية» السنية»، وحافظت على علاقة إيجابية – غالباً- مع نظام آل الأسد في سوريا، ومثلها مع الحكومة في قطر؛ واحتفظت من ثمّ في الخزانة ذاتها باللباس الأوروبي لأيام الأسبوع والجلباب الأبيض والعمامة لخطبة الجمعة.
لا يمكن الحكم أيضاً بشكل قاطع على مدى الجدية في إنجاز تقارب عملي مع منظمة التحرير وفتح والسلطة الوطنية، لإنهاء الانقسام المتنوع الأبعاد ما بين غزة والضفة، الذي يفتك بالفعالية الفلسطينية ويشلّها. بعض المظاهر الجدية تلك تتنحّى جانباً في معظم الأوقات أمام شهوة الحكم وطموحاته، رغم احتجابها وراء الأيديولوجيا والتاريخ. كيف ترى حماس باباً جديداً للتمكين والاستقواء في انتصارات طالبان، أمر يحتاج إلى تأمّل ومعالجة، لن تكونا صعبتين بعد اليوم، حتى تحت ضغط التوتّر والغربة والأزمات المتوالدة لاحقاً. ربّما يكون النموذج الأفغاني، الذي أجبر الولايات المتحدة على التعامل باحترام معه، باباً لبرامج مشابهة لاحقة، تنفخ في غزة ودمارها حتى تعطي لها شكل الدولة بعد الدويلة.
و»دويلة» أخرى هلّلت في المنطقة لذلك الانتصار، هي هيئة تحرير الشام، التي تحكم إدلب في سوريا، مستفيدة من نموذج غزة مع بعض الاختلافات. فليست الحدود جاسئة في إدلب مع النظام السوري المتهالك والواقع تحت وطأة من نصروه من الميليشيات والدول، كما هي في غزة مع إسرائيل ذات الحول والطول؛ وليست «حكومة الإنقاذ» التي تحكم إدلب بكفاءة وتجربة حكومة غزة؛ ولا يفيض الدعم التركي في غزة بتأثير تعقيد السياسات الخارجية وحساسياتها مع إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا، كما يفيض في إدلب، ليتوضّع عسكرياً في عشرات نقاط المراقبة حول المحافظة الرازحة تحت قبضة هيئة تحرير الشام.
وللتذكير هنا، فإن تلك الهيئة هي تقمّص آخر لجبهة النصرة، التي هي ابنة شرعية بدورها لمنظمة «القاعدة»، رغم تغيير ثوب قائدها مؤخراً أبو محمد الجولاني إلى لباس غربي أنيق، ومحاولة تغيير صورتها وصورته لتكون مقبولة أمام العالم، بعد جهود كبيرة قادتها تركيا للقيام بعملية» التحوّل» هذه. بخلاف بيان النصرة في تحيته انتصار طالبان، قال أحد «شرعييها»: قبل عشرين عاماً كان الحزن يعتصر قلوبنا عندما حصل الانهيار في أفغانستان، والآن تغيّرت المعادلة بفضل الله ثم بتضحيات وصبر طالبان، ومن ورائهم شعب عظيم معطاء» «ولا شكّ في أن الكثير من الدروس قد استفادتها الحركة من جديد، الفرحة تغمرنا بنصر الله هنالك، ونتوسّل إلى الله بأسمائه الحسني وصفاته العلا، أن تعمّ الفرحة بلاد الشام والعراق وسائر أنحاء أمتنا المكلومة المظلومة». كما اعتبر شرعي تونسي آخر للجبهة «أن ما بعد تحرير أفغانستان ليس كما قبله. طالبان قررت إعادة رسم سياسة العالم من جديد». وكذلك «إن قيام حكومات إسلامية تقيم شريعة الله بعد قرن من الظلام الحالك، أصبح أمراً واقعاً لن يستطيع الغرب نكرانه».
«بعد قرن من الزمان»، يمكن إجراء حساب ببساطة، ليعود بنا إلى مرحلة انهيار الأمبراطورية – الخلافة – العثمانية. ليعود ويعيد التأكيد على أحلام باستعادتها، تأسست على أساسها دعوة الإمام حسن البنا، وأدّت إلى نشوء وتطور حركة الإخوان المسلمين. وهذه لم تبق على حالها مع الزمن، بل تفاعلت مع حداثة العصر، فقاومتها وتمثّلت بعض تفاصيلها، ورفضتها وقبلت بها.
ولن تستطيع تلك «النهضة» أن تستمر على حالها، لأنها وصلت إلى الجدار لتختار: بين الانتفاض على الذات أو الغرق بلا عودة في مثلث برمودا الصحراوي الجديد. وهنالك من هو متربّص في الزاوية في طهران يصدّر ثوراته إلى ما حوله، وهناك خصوصاً حزب الله – إيران الصغيرة – يوزّع مقاتليه وصواريخه ونتراته ومفاجآته.
القدس العربي – ٣١ آب ٢٠٢١
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع.