كتب د.راتب شعبو -ضرورة التمييز ومعرفة الفروق – رداً على نقد الأستاذ أحمد علي محمد
رد على نقد الأستاذ أحمد علي محمد
راتب شعبو
يقدم الأستاذ أحمد علي محمد نقداً رصيناً لمقالي (التضامن المدني مدخلنا إلى الديموقراطية) المنشور في العدد 15 من مجلة قلمون نيسان/أبريل 2021، أشكره عليه، وأقدر له مبادرته واهتمامه وجديته وكلماته الطيبة.
في مقالي المنقود اقترحت ضرورة الاهتمام بالنضال المدني المعني بالدفاع عن مختلف حقوق المحكومين في مواجهة حاكميهم، على أن لا يكون لهؤلاء المدافعين غايات تتجاوز حماية وتوسيع حقوق المحكومين، ودون أن يكون ثمة محل لانقسامهم على أفكار وتصورات سياسية. الأفكار والتصورات تباعد بين الناس بينما توحدهم الحاجات، ويمكن التأسيس على هذا لبناء شبكة حماية مدنية موحدة لها استقلالية عن الصراعات السياسية.
تضمن مقالي المذكور نقداً للنخب التي ركزت على النضال السياسي مع تجاهل أو استتباع النضال المدني وجعله وسيلة سياسية، معتقدةً أن السلطة السياسية هي المفتاح الذي لا بد منه لاجتراح الحلول. وتبين إن هذا المفتاح، الذي تخاطفته نخب سياسية مختلفة، لم يكن، في ذاته، مفتاحاً للحلول بل مدخلا للمشاكل بالأحرى، أي للاستبداد. فضلاً عن أن المبالغة في دور السلطة السياسية جعل الصراعات على السلطة تستهلك طاقة المجتمع، وتدفع الأطراف المتصارعة إلى توسل كل السبل بما في ذلك شحن الهويات والعصبيات غير المدنية والمساهمة في تقسيم المجتمع على أسس هوياتية، لنجد أنفسنا في حفرة استبداد نغرق بها أكثر كلما حاولنا الخروج منها.
الاستبداد لا ينبع من طبيعة النخبة الحاكمة أو برنامجها السياسي المكتوب، بل من تراجع المجتمع أمام السلطة. والنضال المدني يهدف إلى إعادة التوازن بين السلطة التي تحكم الدولة وبين المجتمع ممثلاً في القوى المدنية. وطالما ظل المجتمع متراجعاً أمام السلطة سوف يبقى الاستبداد السياسي قائماً مهما تكن النخبة التي تشغل موقع السلطة. المشكلة إذن ليست في “نوع” النخبة الحاكمة، بل في العلاقة المختلة بين المجتمع والسلطة، العلاقة التي لا يصلحها صراع النخب على السلطة معزولاً عن النشاط المدني الذي يؤطر حضور المجتمع في المجال العام باستقلال عن السلطة السياسية، وهو استقلال نسبي، بطبيعة الحال، كاستقلال الرئتين عن القلب في الجسد الواحد.
هذه هي أطروحة المقالة التي يتناولها الأستاذ بالنقد في مقال بعنوان (نقد النقد الموارب). وقد حاولت أن أجد مسوغاً للعنوان في مقالة الأستاذ، غير أني لم أفلح في ذلك وبالتالي لم أفهم لماذا يرى في مقالي نقداً موارباً. لعل الجملة التالية التي يقولها عني، تكشف شيئاً مما يعنيه؟ “هو لا يصرح بأن أفكاره تمثل شكلا من أشكال النقد للتجربة التي عاشها وعاينها، من خلال التعميم الذي يمارسه في كتابته”. هل يقصد أني أوارب في نقد تجربة “حزب العمل الشيوعي في سوريا”؟ إذا كان يقصد ذلك، فلماذا أوراب وقد صدر لي قبل أكثر من سنة ونصف كتاب مخصص لنقد هذه التجربة؟ ولكن الأهم، هل يرى الأستاذ أحمد أن ما يتضمنه مقالي ينطبق فقط على تجربة حزب العمل وأنني أغطي على ذلك بالتعميم أو “بالمواربة”؟ لكن لندع هذا الأمر الثانوي وننتقل إلى مناقشة النقد.
يبدولي أن أساس نقد الأستاذ أحمد يكمن في فهمه للعمل السياسي، فهو يعرفه على أنه “كل نشاط واع (التشديد في الأصل) يقوم به فرد أو جماعة، ويهدف إلى التأثير في الشأن العام”. لا يخرج من التعريف، والحال هذا، سوى النشاط غير الواعي الذي يقصد به أحمد “النشاط العفوي”، كما يفهم من السياق. هذا التعريف يقود الناقد إلى القول: “لقد ارتبط النضال المطلبي عموماً بالطبقة العاملة والحركة العمالية في مختلف البلدان، وهو نضال عفوي (التشديد من عندنا) قبل أن يتحول إلى نقابات واتحادات نقابية تقوده وتوجهه”. السؤال: وماذا بعد أن تحول إلى نقابات؟ هل أصبح نضالاً سياسياً لأنه لم يعد “عفوياً”؟ لم يطرح الناقد على نفسه هذا السؤال لذلك يصل إلى النتيجة التالية: “وهكذا يتبين لنا أن النضال المطلبي (التضامن المدني) هو تعبير عفوي عن حضور المجتمع المدني وتطوره في مرحلة معينة من التطور الرأسمالي لبلد ما، وليس فعلا إرادويّاً تقوم به نخب معينة كما يذهب الكاتب” (التشديد في الأصل).
لا يخرج القارئ بتمييز يقيمه الناقد بين النشاط الواعي والنشاط العفوي، هل التنظيم هو ما ينقل النشاط العفوي إلى واعي؟ أم أن التنظير والإدراك هو الفاصل المميز؟ ويزداد الأمر غموضاً حين يؤكد الناقد على أن “النضال المطلبي يبقى عملاً سياسياً بامتياز”، كيف يكون “النضال العفوي” عملاً سياسياً، أي واعياً، بامتياز؟ أين الحدود بين العفوي والواعي، بين السياسي والمطلبي؟
لنضع هذا جانباً ونحاول التركيز على فكرة الناقد في قوله إن حضور المجتمع المدني وتطوره يكون عفوياً مع التطور الرأسمالي، وليس “إرادوياً” تقوم به نخب معينة، أي لا يحتاج إلى “نضال”، وأن التأكيد على ضرورة النضال المدني هو “نزعة إرادوية”.
ولكن لماذا لم يتطور المجتمع المدني “عفوياً” في مجتمعنا؟ يفسر الناقد ما يسميه “ضمور” و”غياب” المجتمع المدني عندنا اليوم، و”تلاشي” النضال المطلبي، بأنه ناجم عن تحول الاقتصاد السوري إلى اقتصاد ريعي، وازدياد القبضة الأمنية وتدجين الحركة النقابية وغير ذلك. بسبب هذه العوامل لم يتطور عندنا مجتمع مدني “عفوياً”، كما يفترض أن يحدث بحسب الناقد الذي يوافق على ضرورة “الاشتباك مع الاستبداد على مستويات منخفضة” ولكنه يرى أن هذا الاشتباك هو “من صلب العمل السياسي”، ويتألف من شقين “أولهما هو النضال المطلبي، وأما الثاني فهو المستوى الاقتصادي من الممارسة السياسية”. مرة أخرى، لا يوضح الناقد الفارق بين الشقين. في مكان آخر يرى الناقد أن الاشتباك المذكور هو “بالضبط” خوض الصراع الطبقي على المستويين الاقتصادي والايديولوجي، أي يُدخل أيضاً النضال الأيديولوجي ذا الطابع النظري والسجالي، في الاشتباك “المنخفض” المذكور. يستند الأستاذ هنا إلى تحليلات مهدي عامل على نحو يبدولي اعتباطياً، والحق أن التصورات البنيوية وأزمنتها تصلح للتأريخ والتحقيب أكثر مما تصلح لأن تكون دليل عمل.
قصدت بالمستويات المنخفضة تلك المتصلة مباشرة بحياة الناس المادية والمعنوية، ولا يصح، والحال كذلك، نسب الجدالات الفكرية والتحليلات النظرية والانشغال في رصد خطابات السلطة وردها إلى مصالح سياسية محددة، لا يصح نسب هذا النشاط الأيديولوجي إلى “المستويات المنخفضة” التي يتحدث عنها المقال.
في كل حال، إذا كان ناقدي يرى أن كل نشاط واعي يؤثر في الشأن العام هو نشاط سياسي مهما اتخذ من أشكال، يصعب إذن الرد عليه، ولكن في الوقت نفسه يصعب الاستفادة منه. فمحاولة تمييز شكل مدني للنضال مستقل عن العمل السياسي، بوصف هذا الأخير عملاً يستهدف السلطة السياسية ويقوم على تصورات سياسية محددة في مواجهة تصورات أخرى لأحزاب أخرى، تبدو للناقد محاولة إيجاد بديل. من الغريب أن ينتقد الاستاذ أحمد تعريفي للعمل السياسي بأنه يستهدف السلطة السياسية بالقول: “وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الحزب (الشيوعي السوري) لم يكن يضع الاستيلاء على السلطة السياسية هدفاً مباشراً له في أي مرحلة من مراحل نضاله، وهذا يخرق التعريف الذي استند إليه الكاتب في بحثه”. لا يسأل الأستاذ نفسه ما الفارق بين الحزب والنقابة إذن؟ وما هو مبرر تشكيل حزب سياسي أصلاً؟
توجد منطقة خلاف صلبة مع الناقد تتعلق باختلافنا في تصور العمل السياسي والعمل المدني، ففي حين لا يعطي الناقد استقلالية للعمل المدني ويجده مرة “عفوياً” لا يحتاج إلى نضال إلا لدى “إرادويي النزعة”، ومرة جزء من صلب العمل السياسي، فإنني أعطي، من جهتي، استقلالية كافية لهذا العمل بوصفه ميداناً خاصاً ومستقلاً عن العمل السياسي. أكثر من ذلك، أجد أن تسييس العمل المدني (أي تولي الأحزاب مهام مدنية) يفسد فاعليته في خلق التوازن بين المجتمع والدولة لأنه يحقن المجتمع المدني بانقسامات من خارجه، أي يصدّر إلى النضال المدني انقسامات سياسية ليست من طبيعته. لذلك حين ينتقد الأستاذ أحمد قولي بخلو تاريخنا الحديث من نضال مدني وازن، فإنه يحتج علي بنضالات مطلبية قادتها أحزاب، وهو ما لا يُعتد به في فهمي.
كلمة أخيرة بخصوص النخب. يرى ناقدي أنني أقيم “فصلا تعسفيا وحادا بين النخبة والشعب حتى ليظن القارئ بأن هذه النخبة قد هبطت من كوكب آخر، أو من بلد آخر، فهي عنده مفهوم مجرد وجوهري لا يتغير ولا يتبدل، وهي ليست من الشعب، ومصالحها غير مصالحه، فكل النخب عنده سواءٌ على الأقل في موقفها من الشعب”. ويشرح فهمه بالقول “أما نحن فنذهب إلى أن النخبة ليست ثابتة بل هي مفهوم تاريخي متغير، ولها مفهوم محدد قبل استلام السلطة مغاير لمفهومها بعد استلام السلطة، كما أنها متباينة من حيث منابتها الاجتماعية وتوجهاتها الأيديولوجية”. يفوت الناقد أنني لم أضع النخب في خانة واحدة، ولكني قلت إن النخب (على تنوعها) محكومة لقانون واحد في سعيها إلى السلطة، سواء قبل أو بعد، وهو قانون يقول إنها سوف تتحول إلى نخبة مستبدة ما لم تجد موانع “موضوعية” تضع لها حداً. انحكام النخب السياسية لقانون واحد لا يكافئ القول إنها هابطة من كوكب آخر، أو مفصولة فضلاً تعسفياً عن الشعب … الخ.
أهم من ذلك أن كلامي هذا لا يتضمن هجاء للنخب، ولا تحقير لها بالأنانية أو ما إلى هذا، بقدر ما هو هجاء لآلية تفكير تنصرف إلى تقديس السلطة السياسية واعتبارها السحر الذي تخال النخبة أنها تستطيع، ما أن تستولي عليها، أن تحل مشاكل المجتمع.
استقلالية النضال المدني عن النضال السياسي لا تعني أنه بديل عنه أو خير منه، بل يعني أنه الضلع الناقص الذي لا بد من الالتفات إليه لحل الأزمة المزمنة في بلداننا، أي العلاقة بين الدولة والمجتمع. وتوفر وسائل التواصل الحديثة فرصة ممتازة لخوض هذا النضال.
أيلول – ٢٠٢١
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع.