الحادي عشر من سبتمبر/ قراءة الحدث في سياقه وأبعاده ونتائجه.
تمر هذه الأيام الذكرى العشرين لحادثة تدمير برجي التجارة العالمي في نيويورك العاصمة الاقتصادية العالمية، كانت الساعة حوالي الرابعة عصرا بتوقيت الإمارات تقريبا على ما أذكر، كنت وقتها أعمل في أحد المشاريع الإنشائية، وأنا أتابع عملي في الموقع رن الموبايل الكاتل الذي كنت أحمله، وإذا بالمهندس الاستشاري يهاتفني:
– مهندس احمد تعال بسرعة، اترك كل شي وتعال بسرعة.
-قلت له: خير شوفي ؟؟؟
-(أمريكا انضربت، أمريكا انضربت)، قالها بفرح وغبطة.
لم أفهم شيئا في الواقع، حثثت الخطا باتجاه غرفة الاستشاري الذي كان مقيما في الموقع، كان جهاز التلفزيون مثبتا على محطة الجزيرة الفضائية التي كانت تبث صورة الطائرة وهي تقتحم البرج الثاني بينما تتصاعد سحب الدخان من البرج الأول، ثم تعيد اللقطة وتكررها، بعد فترة وجيزة لاتزيد عن نصف ساعة من وقوع الحدث خرج الرئيس بوش على الإعلام ليعلن اتهام تنظيم القاعدة بتدبير العملية.
كان الانطباع الأول الذي راودني هو الخوف، الذي لم أستطع أن أحدد مصدره وقتها ، أما بعد تصريح الرئيس بوش واتهام تنظيم القاعدة بهذا العمل الإرهابي فقد تولدت لدي قناعة بأن هذه العملية من تدبير المخابرات المركزية الأمريكية، ولاسيما أن بوش اتهم تنظيم القاعدة بارتكابها للعمل من دون أن يستند إلى أية قرائن دالة على ذلك، لقد بدا لي الاتهام وقتها مفبركاً ومصطنعا، ويمكن أن يخمن ماوراءه كل ذي عين بصيرة؛ ؛ إذ تم إعلانه قبل القيام بأية تحقيقات جنائية أو استخباراتية أو غيرها، وقبل أن يتبنى التنظيم الحادث عبر بيان جاء متأخرا عدة أيام، وقد تعززت لدي هذه القناعة لاحقا، بعد أن ظهرت عملية الاستثمار والتوظيف الهائلة التي قامت بها الإدارة الأمريكية للحدث، حيث تم تقسيم العالم إلى معسكرين جديدين هما معسكر الخير الذي تمثله أمريكا، ومعسكر الشر الذي تمثله قوى الإرهاب العالمي، ومبدأ بوش في تصريحه الشهير “من ليس معنا فهو ضدنا”، القائم على ثنائية دينية مقيتة ومفضوحة، وقد تبين لي لاحقا أنني لم أكن الوحيد الذي شكك بالرواية الرسمية الأمريكية، وإنما هناك الكثيرون الذين لم يقتنعوا بهذه الرواية، ويأتي في طليعتهم الكاتب الفرنسي تييري مايسون صاحب كتاب (الخديعة الكبرى).
وبعيدا عن السجال الذي دار عالميا حول هذه النقطة، والكتب التي ألفت حول الموضوع، سواء ممن اعتمد رواية الإدارة الأمريكية، أو من خالفها وعاكسها، والذي أعتبره سجالا عقيما طالما أنه يفتقر إلى الأدلة الجنائية الدامغة من كلا الطرفين، دعونا ننظر إلى الحادث الخطير من منظار آخر، وذلك بدراسة السياق التاريخي والسياسي الذي تم به، والنتائج التي أفضى إليها بعد عشرين عام مضت.
اتسم النصف الثاني من القرن المنصرم على المستوى العالمي بانقسام العالم إلى معسكرين عالميين، المعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الإشتراكي الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، الأمر الذي خلق حالة من الاستقطاب الدولي، ودخول كلا المعسكرين في سباق تسلح محموم وصل إلى حد استخدام الفضاء عبر برنامج الرئيس الأمريكي الأسبق ريغان المعروف بحرب النجوم، وقد أدى هذا السباق الذي بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى تشكل المجمع الصناعي الحربي في الولايات المتحدة، وذلك نتيجة تخصيص أموال هائلة من الموازنة الأمريكية لهذا الغرض بلغت تريليونات الدولارات، وفي الواقع فقد شكل الاتحاد السوفييتي في حينه تهديدا حقيقيا للمعسكر الغربي، بما امتلكه من ترسانة نووية وصواريخ عابرة للقارات، ومن اعتماده سياسة التدخل العسكري لفرض أنظمة موالية له، بدل الاعتماد على الكفاح الجماهيري للشعوب، خاصة بعد حادثة الصواريخ الكوبية في خليج الخنازير في ستينيات القرن المنصرم، وتدخله في تشيكوسلوفاكيا عام 68 ثم في أفغانستان وغيرها، كما شكل فزاعة للشعوب الغربية بما جسده من نظام شمولي طامح لتعميم نفسه عالميا، الأمر الذي جعل أمريكا تنصب نفسها كزعيمة وحامية للعالم الحر!، وأعطى الإدارات الأمريكية المتعاقبة المسوغات الكافية لكي تخصص أموالا هائلة من الميزانية الأمريكية من أجل السلاح والتصنيع الحربي، وذلك على حساب لقمة عيش المواطن الأمريكي ورفاهيته، الأمر الذي جعل من هذا المجمع الصناعي العسكري قوة خاصة وكبيرة لها مصالحها وتأثيرها المتزايد على القرار السياسي الأمريكي.
كان الخوف من المد الشيوعي الذي دعمته البروبوغاندا الإعلامية الهائلة كافيا لكي تمرر الإدارة الأمريكية أية سياسة تريدها على الصعيدين الداخلي والخارجي، بحجة مواجهة المد الشيوعي، وفجأة وبشكل دراماتيكي وفي زمن قياسي انهار المعسكر الشرقي كأحجار الدومينو في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، الأمر الذي وضع الإدارة الأمريكية (الخاضعة لتأثير المصالح المباشرة للمجمع الصناعي الحربي)، في مأزق حقيقي، يذكرنا بالمأزق الذي وجد نفسه فيه المختار لدى معرفته بوجود راجح حقيقي في مسرحية (بياع الخواتم) الرحبانية، مع فارق وحيد، هو أن راجح الحقيقي ( الاتحاد السوفييتي) هنا قد مات، وباتت الحاجة ملحة لتصنيع راجح مزيف يملأ الفراغ الذي أحدثه هذا الموت.
لقد وجدت هذه الإدارة نفسها أمام استحقاقات جديدة، فالشعوب الغربية بشكل عام والشعب الأمريكي بشكل خاص، الذي ضحى وصبر وتحمل الكثير مقابل الحماية من الخطر الشيوعي الداهم، ومن أجل صيانة قيم الحرية والديموقراطية التي آمن بها، سوف يطالب حكومته اليوم بتحويل الأموال الهائلة التي كانت تخصص للدفاع إلى قطاعات اخرى كالضمان الصحي والاجتماعي، كما سيطالب بتحسين مستوى معيشته على كافة الصعد، فما دام الخطر قد زال فمن الطبيعي أن لايكون ثمة مبرر لزيادة الإنفاق على الترسانة العسكرية، ولصرف الأموال الهائلة، التي هي من جيوب دافع الضرائب الأمريكي، على الدفاع والتصنيع الحربي، كما أن هذه الإدارة مطالبة عالميا بتحمل مسؤولياتها كقطب عالمي أوحد لحل مشاكل العالم المتفاقمة مثل المناخ والتلوث البيئي، ونشر مبادئ وقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، ومساعدة الدول الفقيرة والنامية للنهوض واللحاق بركب التنمية العالمي، ولامخرج لهذه الإدارة من مأزقها طالما أنها ليست جاهزة للإستجابة لهذه التحديات إلا بإيجاد عدو جديد وخطر جديد أو راجح جديد، وبالتالي لابد من وضع استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية انطلاقا من الوضع الجديد القائم على اعتبار أمريكا القطب الوحيد عالميا.
ضمن هذا السياق جاء تفجيربرجي التجارة العالمي في الحادي عشر من سبتمبر2001، وسواء كان هذا التفجير من تدبير المخابرات المركزية الأمريكية أم لا، فإن المستثمر الوحيد في هذا الحدث هو الإدارة الأمريكية ؛ إذ شكل الصخرة التي بنت عليها الولايات المتحدة استراتيجيتها للقرن الجديد، بوحي من مصالح المجمع العسكري الحربي، هذه الاستراتيجية القائمة على وجود إرهاب إسلامي متطرف وما يمثله من خطر على شعوب العالم المتمدن ( الحر)، ومن ثم إعلان الحرب على هذا الإرهاب، الأمر الذي يعطي ذريعة لأمريكا للتدخل العسكري في أي بلد إسلامي بحجة مكافحة الإرهاب، وهو ماحصل بالفعل؛ إذ لازالت أمريكا على سبيل المثال تبرر تواجدها العسكري في سوريا بحجة محاربة داعش.
إن عملية جرد بسيطة خلال العشرين عاما المنصرمة تظهر بشكل جلي أن ضحايا الإرهاب الحقيقيين هم شعوب المنطقة ومقدراتها وثرواتها وحاضرها ومستقبلها، وعلى الرغم من أن بن لادن قد حاول التمسح بالقضية الفلسطينية في البيان الذي تبنى فيه عملية تفجير برجي التجارة العالمي، إلا أن بن لادن وتنظيمه المشبوه بكل الاعتبارات، لم ينفذ عملية واحدة في تاريخه ضد إسرائيل، ولا ضد المصالح الإسرائيلية المنتشرة في العالم، وهذا أمر في غاية الأهمية لمن أراد أن ينعم النظر في سيرة هذا التنظيم وفي موضوع الإرهاب بشكل عام.
لقد دفعت شعوبنا ثمنا باهظا للإرهاب الإسلامي التكفيري أولا، وثمنا آخر للحرب على هذا الإرهاب ثانيا، إن مقارنة بسيطة بين أوضاع العراق الحالية على سبيل المثال وأوضاعه قبل عشرين عاما تظهر حجم الخسارة التي مني بها هذا البلد منذ سقوط عاصمته بيد القوات الأمريكية الغازية وحتى اليوم، من دمار مادي وبشري واجتماعي وطني، وقس على ذلك ماحدث لسوريا واليمن وأفغانستان وغيرها، كما أن عملية الجرد هذه تظهر لنا كيف أن الحرب المزعومة على الإرهاب قد أدت عمليا إلى تمدد هذا الإرهاب وازدياده قدرة وقوة وتمكنا في بلدان آسيا وأفريقيا بشكل عام، وبلداننا العربية بشكل خاص، وهاهي أمريكا بعد عشرين عاما من الحرب على طالبان تسلمها أفغانستان وتنسحب تاركة البلد مفتوحا على احتمالات حرب أهلية تحرق الأخضر واليابس في هذا البلد، لم يتردد رئيس هيئة الأركان الأمريكية في التبشير بها وتوقعها، مثلما بشرنا أوباما يوما بأن الحرب على داعش في سوريا والعراق قد تستغرق ثلاثين عاما، وفي الواقع علينا أن ننظر إلى توقعات الساسة الأمريكيين ليس باعتبارها توقعات وإنما باعتبارها قرارات أو خططا موضوعة للتنفيذ.
وكما التقط أشقياء القرية في المسرحية الرحبانية لعبة المختار وأخذوا يستثمرون بها من خلال ارتكاب أعمال سرقة ولصقها باسم راجح، كذلك التقط حكام العالم بشكل عام وحكومات المنطقة بشكل خاص اللعبة الأمريكية وأخذوا يستثمرون بها أيضا، وهكذا أصبح الأكراد الذين يطالبون بحقوقهم القومية المشروعة إرهابيين من وجهة نظر الحكومة التركية، التي قدمت كل التسهيلات لتنظيم داعش!!!، مثلما أصبح الشعب السوري المطالب بحقه في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية إرهابيا من وجهة نظر النظام، وذلك منذ اللحظة الأولى لانتفاضة هذا الشعب، وهلم جرا، لتصبح تهمة الإرهاب سيفا مسلطا على رقاب الشعوب الطامحة لبناء عالم أكثر عدلا وحرية وأمانا.
وفي الواقع لم تبد الإدارة الأمريكية أدنى رفض لهذا التوظيف مادام متوافقا مع مصالحها الآنية والبعيدة، لقد أصبح الإرهاب الأداة الأمريكية الفعالة لتحقيق مشروع (الفوضى الخلاقة) الذي بشرت به وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس منذ أوائل القرن الحالي، طبعا الفوضى الخلاقة للمصالح الأمريكية، عبر تدمير اسس الدولة الوطنية لبلدان المنطقة وتحويلها إلى كيانات مذهبية وطائفية متصارعة ومتناحرة، وقد وجدت الإدارة الأمريكية في نظام الملالي الإيراني ركيزة كبرى وجاهزة لتعميم ثقافة الفتنة المذهبية، وبث روح الكراهية والحقد الطائفي بين مكونات الشعب الواحد، فاستثمرت في هذا النظام عبر احتوائه ضمن استراتيجيتها العامة، والسماح له بالتمدد الإقليمي الذي أدى مهمة تدمير بلدان المنطقة وإعادتها قرونا إلى الوراء.
إذا كانت إحدى القرائن المهمة في البحث الجنائي لكشف هوية المجرم، أو من خطط ودبر لجريمة ما، هي البحث عن الشخص أو الجهة المستفيدة من وقوع الجريمة، فقد بات واضحا وجليا أن الإدارة الأمريكية وشركائها من الأنظمة المستبدة في المنطقة هي المستفيد الأول والمستثمر الأول في حادثة الحادي عشر من سبتمبر وفي ظاهرة الإرهاب بشكل عام، ولايغير من هذه الحقيقة وقوع آلاف الضحايا من الأمريكيين في ذلك الحادث، فمتى كانت الحكومات والطغم الحاكمة تهتم لمصير الأفراد وحيواتهم حين يتعلق الأمر بالمصالح العليا لهذه الحكومات والطغم الحاكمة وشركاتها العابرة للقارات.