أمنيات سورية للعام المقبل – موفق نيربية
يزداد ثقل شريط الأخبار وشدّة قبضته على القلب بشكل يفوق أيّ زمن مضى. فصارت الكتابة عن «حصاد العام الآفل» أكثر صعوبة، وتدخل في باب الروتيني المملّ الذي يقفز عنه القارئ غالباً. وباعتبار أن توقّع مآلات ما يحدث لسوريا معقد ومغامرة لا تُحمد عقباها، ألجأ في ما يلي إلى عرض تمنيّات ورغبات مباشرة، من دون تضمينها بلاغةً تحليلية أو ادّعاء، ربّما تكون نوعاً من الدعاء والرجاء، مع بعض الأوراد والتسابيح، والمزيد من التسليم.
أرجو بقوة أن يتحقق تناغم تركي أمريكي حقيقي، من خلال عضوية الناتو، أو مشروع عضوية الاتحاد الأوروبي، أو الأزمة الاقتصادية، أو المصالح الانتخابية للقادة المعنيين، لا فرق. يتطرّف الطرفان في «استراتيجيتهما» ومنظور حماية أمنهما القومي في بلادنا، أولهما بمقدار سلبيته، وثانيهما بحجم إيجابيته أو هجوميته، باعتبار أن وقف العنف في شمال سوريا لا يمكن تسهيله إلّا من خلال الداعمَين الأكثر أهمية، اللذين يجمعهما موقف واحد من النظام السوري، من اليسار واليمين، الشمال والشرق.
يمكن لهذا المسار- الخيالي حتى الآن، الذي يستطيع اجتراح اتفاق تنسيق بين شمال شرق سوريا وشمال غربها أن يتدرّج من المسائل الإنسانية والمصالح المتبادلة وتداخلات التعافي المبكّر.. ويمكن له أيضاً أن يفتح طريقاً لكفّ يد حزب العمال الكردستاني التركي عن استغلال علاقاته للوجود في شمال شرق سوريا سراً وعلناً، الأمر الذي لا يستفزّ الأتراك بشكل عميق وحسب، بل يؤسس لصراعات عربية – كردية، وكردية- كردية، بدلاً من طريق التفاعل والتناغم والتصالح. إن تعبيد هذا الطريق ضروري لتسهيل عملية الحوار بين مجلس سوريا الديمقراطية، والمجلس الوطني الكردي، والحوار الآخر، من ثمّ، بين الكرد والعرب وغيرهم، بالتوفيق بين مصلحة الجماعات وحقوقها ووحدة سوريا وسلامها ومستقبلها. بالمقابل تماماً، هنالك أمنيات بكفّ يد جبهة النصرة وكلّ مفرزات «القاعدة» في الغرب، وتدبير مآل لتلك العقدة بأيّ طريقة، ترتبط بها أمنيات بتلطيف الوجود التركي المؤقت على الأقلّ، تمهيداً لما يأتي في المستقبل، والامتناع عن مظاهر الإلحاق في المسائل السيادية كلّها. لا يتعارض ذلك مع استمرار الأتراك بموقفهم الجيّد في دعم اللاجئين السوريين، والقضية السورية عموماً، لكن ذلك قد يساعد على تخفيف التوتّر وقطع طريق الهندسة الديموغرافية في الشمال كلّه، بعد أن مارستها سلطة الطغيان وعصاباتها بقوة في مناطق سيطرة النظام. أمنية أخرى أبعد مدىً ومسافة، أن تصل العلاقة الروسية مع الغرب والولايات المتحدة خصوصاً، إلى نقطة تُستقطع من مسارات التوتّر، لعلّ القضية السورية تجد لها مكاناً بذاتها، أو بالتفاعل مع مسائل أخرى: المهم أن تضع إدارة بايدن قريباً استراتيجيتها الموعودة والمكتومة حول سوريا، لنعرف خيرها من شرّها، ويبدأ الاهتمام المتحرك الفعّال. ومهم أيضاً ألّا تغرق إدارة بوتين في مستنقع أوكرانيا الأشدّ خطورة، وتتوقف عن المناورة والمغامرة عند حدود معينة، إن طريق استعادة صفة» القطب الدولي الممتاز» لا تمرّ بالضرورة المعاصرة عبر البلطجة الدولية، بل عبر الحكمة وممارسة دور رائد في الحفاظ على السلم والاستقرار والمناخ والتقدّم… ويبقى من الغرابة الحديث بهذه الأمنية وقعقعة السلاح الكبير تدوّي في سماء كرتنا الأرضية هذه.
لعلّ المباحثات في فيينا حول الاتفاق النووي مع إيران تصل إلى نهاية سعيدة يخرج منها الروس والأمريكيون أكثر تفاهماً، تنتهي معها العرقلة الروسية لتطبيق المزيد من الضغوط على حكومة الوليّ الفقيه، ومن ثمّ تتولّد إمكانية أكبر لتفاهم حول سوريا. هنا تتداخل الأمنية مع أمل غامض الملامح، باستمرار فشل إيران في كلّ مواقع تمدد الأذى والتوسّع في العراق ولبنان وسوريا واليمن؛ مع قطع فعلي لطريق امتلاكها السلاح النووي، الذي يمكن بخلاف ذلك أن يصبح عامل توتّر دولي جديد، وخرائط جديدة ترسم للمنطقة التي ستتحوّل نهائياً، أو لزمن طويل مقبل مجموعة بؤر للتوتّر وتصدير الإرهاب والخراب وكلّ أنواع التفجّرات. من جانب آخر، هناك أمنية بانتهاء النزاعات الإقليمية حولنا وتهدئتها، بتنظيم الاختلاف وعقلنته وتحكيم المصالح المتقاطعة: فتتعمّق المصالحة الخليجية بخطوات أكثر ثباتاً، ليس لمصلحتنا نحن السوريين وحدها بتحررهم من تبعات الخلافات وانعكاسها عليهم وحسب، بل ليكون ذلك عاملاً في تقريب الحل وتحريك العملية السياسية التي تخصّنا؛ خصوصاً لمواجهة الأخطار الإيرانية القائمة والمحتملة والمقبلة من عدة اتجاهات، بالتعاون مع حزب الله وغيره.
كلّ هذه الأماني لو تحقّقت، لن تنفعنا في العمق، وسنكون موضوعاً لاتّفاق الآخرين وحسب، قد يجري قصه وتقطيعه وشدّه وجذبه وتغيير جلده، ولا مدخل لنا على الفعل والتأثير أو تقرير المصير. هو شيء ضروري لازم بذاته أو لتعديل ما فعلت تلك القوى ببلادنا بسياساتها ونزاعاتها، وبدعمها المشوه لنا في كثير من الأحيان. ما ينفع بالفعل هو استعادة تمثيل السوريين من قبلهم هم أنفسهم، بطريقة تفرض على الآخرين احترامهم، وتفرضهم كحامل رئيس للأسهم في مسار سوريا خارج واقعها المرير الراهن ونحو مستقبلها. سوريا حالياً تتوزّع على مناطق ثلاث، وبضع مناطق جزئية أخرى، وكلها تصطرع على الأرض، تنتهكها قوى خارجية متنوعة، ويعيش السوريون فيها كلّها في أسوأ ظروف عرفها التاريخ الحديث… وميليشيات وعصابات وأمراء حرب وإرهابيين وبسطاء، يحملون السلاح لسدّ أفواه أطفالهم على الجهة المسلّحة، وجوع وبرد وخراب ومخدرات وتهريب وفساد وامتهان من جهة المعيشة. وأسوأ من حالها كلّه حال من يمثّلها أو يدّعي تمثيلها، حيث التنازع والتصارع والارتهان في الحياة السياسية، لذلك أتمنى لو يتعمق سياق تلك المفاوضات بين الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق، وتتوسّع إلى غيرهما، الذي ابتدأ وخبا سريعاً في الشهر الماضي لأسباب تشبه السرّ المكشوف أو العادة القديمة التي خبرتها حليمة. ولعلّه أن تُشدّ البراغي في ما هو أساسي، وتتكاثر التنازلات في ما هو ثانوي وعَرَضي. وليس هذا انتقاصاً من كلّ الانتقادات التي تنهمر على تلك البنى والهياكل السياسية، رغم التسليم بكونها موجودة قائمة، إلّا أنها ملك للسوريين، وليس لمن يتصدرون فيها. ولعلّ ذلك يحدث قبل أن تفاجئنا كالعادة محاولات إقليمية لتجديد الطاقم أو تعديله، فتخرب الأمر وتزيده سوءاً، كما فعلت مراراً من قبل، والمُجرّب – في ذلك خصوصاً- لا يُجرّب! مسار المعارضة السورية كاد يصبح عصيّاً على التغيير، وإن كانت محاولة إصلاح الأمر واردة، فليس على النمط الذي تصنعه العوامل الخارجية ذاتها، ثمّ تسارع بعده إلى امتهان ما صنعته بيدها وسلوكها، وهنالك مسار ضروري ومصيري، غاب عن تمثيل السوريين وتمّ تقزيمه وعزله: هو استعادة السياسة إلى حياة السوريين في كلّ مكان، بعد أن منعها عنهم وعزلهم عنها نظام عائلة الأسد لعقود طويلة؛ واستعادة الاعتدال والمدنية والتعلق بالحرية وإدارة التنوع والاختلاف بينهم، وإحياء قوة الديمقراطيين الأكثر تمثيلاً للشعب. تعثّر هذا السياق مراراً، وما يتأسس حالياً – للأسف- بدائل مشوهة عنه لا تغني ولا تسمن من جوع. لعلّ العام المقبل يشهد أيضاً لقاءات ومؤتمرات ومناقشات حقيقية للديمقراطيين السوريين، القدماء والجديدين، عربهم وكردهم وسريانهم وتركمانهم وغيرهم، السوري فيهم خصوصاً وأولاً. يحتاج مثل هذا التوجّه إلى روح جديدة عمّا يسود، تخرج من الباطنية والاستحواذ والإقصاء والانتهاز والتنمّر، إلى الشفافية والانفتاح والاحتواء والإخلاص والتواضع، ذلك أقلّ ما يمكن وينبغي ويجب.
أدّت التجارب السابقة البتراء إلى نشوء بنى ديمقراطية أقرب إلى العجز، وأكثر حفظاً للتقاليد الموروثة من عهود النضال ضد النظام، حيث كان نضال ولا سياسة، صمود ولا تقدّم، انكماش مستمر وحال يشبه الموات. أتمنى في العام المقبل أن يكثر عدد الكهول – من أمثالي- الذين يبتعدون عن العمل السياسي المباشر، ويجدون طريقة أخرى لمتابعة «هوايتهم» من دون تدخّل عميق، يغلق الطريق والهواء على أجيال جديدة ومختلفة من السياسيين الديمقراطيين، وعقليات جديدة وحديثة.. أن» يتنحّوا». لقد طالت آلام السوريين، وسالت دماؤهم بما يزيد عن حاجة أعدائهم، وعمّ الدمار بلادهم وغاب استقرارهم وأمانهم. مع إدراكنا-والعالم كلّه يرى – أن النظام الاستبدادي مسؤول مسؤولية تاريخية وسياسية وقانونية عمّا جرى، وأن مساءلته عن ذلك – مع جميع الذين ارتكبوا جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية- حق ثابت للشعب السوري من أجل الحقيقة والمصالحة، متداخلٌ مع سعينا لإنجاز حلّ سياسي من خلال الشرعية الدولية، يوقف النزيف ويؤمن عودة اللاجئين إلى ديارهم، وإعادة بناء بلادهم ببنيتها الفوقية والتحتية، كما يحلم أهلها..
فهل تتحقق خطوة واحدة على هذا الطريق في العام المقبل؟ يقال إن هنالك مؤشرات، لعلّ وعسى.
القدس العربي – ٢١-١٢-٢٠٢١
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع