محاكمة أنور رسلان.. صرامة القضاء وميوعة السياسة
كتب د. راتب شعبو
يعرف السوريون جيدًا، ولا سيّما من كان له رأي معارض أو “مغضوب عليه” لأي سبب كان، ماذا يعني ضابط المخابرات في ظلّ نظام الأسد. يعرفون جيدًا كيف تنوء حياتهم تحت ثقل الخوف الذي تسببه الصلاحيات المطلقة لجنود السلطة هؤلاء الذين ينشؤون على احتقار الناس واحتقار كلّ قيمة خارج دائرة السلطة التي يخدمونها، وخارج دائرة مصالحهم الشخصية في ظل سلطتهم. ويعرف ضابط المخابرات أن نجاحه يتوقف على استعداده للتعذيب والقتل والاغتصاب والإذلال والافتراء وتسميم حياة الناس. أي ببساطة على استعداده لأن يكون عدوًا لشعبه. من الطبيعي أن لا يجد أي من هؤلاء الضباط ذرة احترام لدى السوريين، ويدرك ضابط المخابرات هذه الحقيقة جيدًا، وهي لا تزعجه، بلا شك، فهو لا يبحث عن حبّ الناس واحترامهم، بل عن إخافتهم وإرهابهم. هذا لأن دوره ووظيفته، في ظل أنظمة سياسية تسود فيها طغمة حاكمة مؤبدة، تتطلب منه ذلك، وإن كانت طبيعته الشخصية سوى ذلك. والحق أن الآلية الطبيعية لعمل هذه الأجهزة تقوم على طرد الأشخاص غير الملائمين (أي المحترمين) واستقطاب من تتلاءم شخصيته مع هذه الوظيفة القذرة.
مع ذلك، من المفهوم أن لا تستطيع مشاعر السوريين الناجين من قبضة نظام الأسد أن تتوحد حيال الحكم الذي أصدرته محكمة ألمانية في كوبلنز بحق العقيد أنور رسلان، ضابط المخابرات الذي كان، قبل إعلانه الانشقاق، رئيس قسم التحقيق في “الفرع 251” المعروف باسم “فرع الخطيب” التابع لأمن الدولة.
بعد حوالي سنتين من المحاكمة، وحوالي 100 جلسة، واستماع إلى عشرات الشهود؛ أصدرت المحكمة الألمانية في 13 كانون الثاني/ يناير، حكمًا بالسجن مدى الحياة على العقيد رسلان، لمسؤوليته عن موت 27 شخصًا على الأقل، وعن تعذيب الآلاف، وعن عمليات اغتصاب.
يأتي الحكم في إطار شعور السوريين بهزيمة باهظة أمام النظام الذي أنتج العقيد رسلان، وما زال مستمرًا في الحكم على النهج نفسه، أو على نهج أسوأ بكثير، قياسًا على ما كان عليه حتى تاريخ انشقاق العقيد المدان (في أيلول/ سبتمبر 2012)، بعد هذا التاريخ، بدأ “التحول الكيمياوي” الصريح في النظام. والأكثر مرارة أن البلدان الأوروبية باتت تميل إلى “إعادة تأهيل” نظام الأسد، في الوقت الذي تمارس فيه “الولاية القضائية العالمية” بحقّ أفراد انشقوا عن النظام. هذا ما يفسّر حيرة وتضارب مشاعر السوريين حيال قرار المحكمة الألمانية، ويشكل، في الواقع، أساسًا مشتركًا لمنطقين متعاكسين:
الأول يقول إن هذه الإدانة لا تطال “ضابط المخابرات” على نحو عام، بل تطال الضابط الذي انشق عن النظام وانضم إلى ثورة الشعب، وبالتالي تعمل على تعزيز تماسك النظام، حين يبدو أن خلاص ضباط النظام مرهون ببقاء “نظامهم”. ويقول إن هذا الحكم، في ظل استمرار نظام الأسد، يبدو معاقبة للضابط المذكور على انشقاقه. لم يكفّ المحتجون منذ البداية عن مطالبة الضباط بالانشقاق والاحتفاء بانشقاقهم، وعليه فإن هذا الحكم يُظهر الانشقاق على أنه “مصيدة”. ففي حين يستمر ضباط النظام في جرائمهم ويتمتعون بسلطاتهم المطلقة على الشعب، يجد الضابط المنشق نفسه وراء القضبان، وسط تهليل من سبق أن دعوه إلى الانشقاق و”الانحياز إلى صفّ الشعب”.
“غير سعيدة بالحكم المؤبد الصادر بحق أنور رسلان”، هذا ما تقوله مثلًا صبية اعتقلت في فرع الخطيب، قبل انشقاق رسلان، وقدمت شهادتها عن الاعتقال للمحكمة. وتضيف هذه الصبية أن العدالة التي نريدها هي محاكمة الأسد وأعوانه المستمرين في ارتكاب الجرائم المروعة. وتقول صبية أخرى، جعلت من قضية اعتقال أبيها وانقطاع أخباره، مع الآلاف غيره، قضيتها الثابتة: “أشعر بخليط من الحزن والغضب وخيبة الأمل، وهذا إحساس تجاه (المجتمع الدولي) والحكومات. ماذا بشأننا؟ ماذا بشأن أحبابنا الباقين في المعتقلات؟ ماذا بشأن من يتم اعتقالهم وتغييبهم كل يوم في سوريا الأسد”؟!
المنطق الثاني يقول إن إدانة جزء من النظام السوري هو خطوة باتجاه إدانة النظام ككل. نعمل ما نستطيع الآن إلى أن تتوفر ظروف محاسبة كبار المسؤولين عن الجرائم بحق الشعب السوري. من المهم جدًا أن لا يجد الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية ملاذًا آمنًا في أي مكان، وإن في اعتقاله (رسلان) ما يريح ضحاياه المباشرين الذين قد يصادف أن جلادهم يسكن بجواره، أو أن يصادفه في الأماكن العامة كل حين.
بحسب وزير العدل الألماني ماركو بوشمان: “لقد تم ارتكاب ظلم رهيب في سجون التعذيب التابعة لنظام الأسد. وإنها مسؤولية المجتمع الدولي بأسره أن يجيب على هذا بلغة القانون”. الحقيقة أن الإجابة بلغة القانون تبقى ناقصة، ما لم ترافقها إجابة، على نفس المستوى من الصرامة، بلغة السياسة.
لكي نستوعب التشّوش الملحوظ في المشاعر وفي المواقف، حيال محاكمة العقيد رسلان، ينبغي ملاحظة الفارق الجلي بين صرامة القضاء الأوروبي وميوعة السياسة الأوروبية. التباين الذي يُنتج مفارقات تصدم السوريين وتجعل البلد الأوروبي قابلًا لأن يستقبل مسؤولًا من النظام المجرم، في الوقت نفسه الذي يطبق الصرامة القضائية على مسؤول آخر، يفترض أنه أقلّ إجرامًا، على اعتبار أنه ترك سلك الإجرام طوعًا. السياسة الأوروبية، والحال هذه، تُسهّل إعادة تأهيل النظام السياسي الذي يُنتج المجرمين الذين يتولى القضاء الأوروبي محاكمتهم. هذه هي المفارقة التي تفسّر الغصة الدائمة التي لم تستطع محاكمة كوبلنز إزاحتها. وإن كان كثير من السوريين قد وجدوا فيها بداية الطريق نحو عدالة أشمل تنال كبار مسؤولي نظام الأسد.
على أن هذه المحاكمات، بنظرة عامة، تجعل ضابط المخابرات، أينما كان، يفكر قليلًا قبل أن يطلق لغرائزه الإجرامية العِنان. وهذا ينطبق أيضًا على مجرمي المنظمات العنفية غير الدولتية، مثل (داعش)، فقد سبق أن قضت محكمة ألمانية في فرانكفورت بالسجن مدى الحياة أيضًا على أحد مجرمي هذا التنظيم، بتهمة الإبادة بحق الإيزيديين في العراق. من المهمّ، بلا شك، أن يكون في خلفية ذهن كل فرد أن احتمال محاسبته على جريمته قائم، ولو بعد حين.
حرمون – ١٧-كانون الثاني – ٢٠٢٢