العفو والمجزرة! – اكرم البني

 


ثمة خيط واحد يربط بين ما عرف بمجزرة التضامن التي عمّمت صورها المرعبة مؤخراً وبين ما سمّي “العفو الرئاسي” الذي صدر إثر ذلك… خيط عنوانه إدمان النظام السوري على الاستهانة بأرواح البشر وحيواتهم، وذاك الدرك البغيض الذي وصل اليه في احتقار المواطن السوري، كوجود وقيمة… خيط يكشف حقيقة البنية التكوينية لطغمة ابتليت بها سوريا منذ عقود، سوّغت لنفسها الوصاية على الناس والوطن، وتقوم من أجل دوام سيطرتها والاستمرار في الحكم، ليس على التعاطي مع مطالب المجتمع وحقوق أفراده وطموحاتهم، بل على إتباع أشد أنواع القهر والقمع، لإرهاب البشر وإذلالهم، وإخضاع مكانتهم في المجتمع لمعايير الولاء الطائفي والسلطوي، ومتوسلة لتطويعهم سيطرة اقتصادية شبه شاملة وتحكماً بأشغالهم ووارداتهم ومستلزمات عيشهم، من دون أن ننسى استسهال استعانتها بأي كان للفتك بهم، يعضدها تنوع فريد من الأجهزة الأمنية تتسابق في ابتكار وسائل القمع والإذلال لسحق أي رأي أو تحرك معارض!
هو خيط طويل، لا يربط فقط مئات المجازر التي ارتكبت بدم بارد في غالبية مناطق البلاد بعد انطلاق ثورة السوريين، والتي تبدو أمامها مجزرة التضامن مجرد تفصيل صغير، ولا حملات الاعتقال الواسعة والعشوائية والحصار المزمن لمدن ومناطق وأحياء بكاملها، والضغط على حاجاتها وخدماتها وشروط معيشتها، بغرض تدمير البيئة الاجتماعية الحاضنة للحراك الثوري، وإنما بماضٍ يمتد لعقود حين أحكم النظام قبضته القمعية على الناس، وزج الآلاف من المثقفين الأحرار والمعارضين السلميين لسنوات طويلة في السجون والمعتقلات، فضلاً عن مجازر مروعة يندى لها الجبين نفذت في مدينة حماة (1982) وأفضت إلى قتل آلاف الأبرياء وسجنهم وحرق أحياء بكاملها، والتي تبدو اليوم كأنها مجرد بروفة أمام ما شهده الشعب السوري في العقد الأخير، يحدو ذلك تكريس مختلف أشكال التفرقة بين مكونات المجتمع عبر اطاحة قيم الكفاية والنزاهة لصالح الولاءات المذهبية والطائفية والعلاقات المتخلفة والمحسوبية، بما في ذلك إجبار الناس، قهراً وإرهاباً، على امتهان الذل والتعايش مع القمع والتمييز والاضطهاد والتضحية بحقوقهم ومصالحهم بينما يندفع زعماء تلك الطغمة نحو شهواتهم في تكديس الثروة وتعزيز سطوتهم وتفريغ المجتمع من كفاءاته المبدعة ومكوناته الوطنية الشريفة.
بعد انطلاق ثورة السوريين، وعندما ظهر شعار “الأسد أو نحرق البلد” اعتقد الكثيرون أن الأمر مجرد تهديد معنوي وغرضه إرهاب البشر وتخويفهم… لم يخطر في بالهم أن الأمر سيأخذ مساراً جدياً وحاسماً، وأن النظام السوري سيذهب بالبلاد إلى الجحيم لقاء استمراره في السلطة… لم يخطر في بالهم أن هذه الطغمة لن تتوانى للحظة عن زج أسلحة الصمود والتصدي في مواجهتهم ولسحق حقوقهم، لتغدو الأسلحة التي تمت مراكمتها طيلة عقود من أموالهم وشروط عيشهم، بذريعة مواجهة إسرائيل، هي أدوات قتلهم… لم يخطر في بالهم أن النظام السوري سيتجرأ على استخدام السلاح الكيماوي الذي روّج له، على أنه أحد أعمدة التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني، كي يقضي برمشة عين على الآلاف من الأبرياء في الغوطة الشرقية وخان شيخون وغيرها… لم يخطر في بالهم أن لعنة السلطة سوف تشجع الطغمة الحاكمة على ابتكار البراميل المتفجرة التي ألحقت دماراً وقتلاً بالسوريين وأماكن عيشهم… لم يخطر في بالهم أن يسارع النظام الى زج إيران وروسيا في حربه ضد حقوقهم البسيطة ويهلل لـ”حزب الله” اللبناني والميليشيا الموالية لطهران كي تنزل بالسوريين كل صنوف الفتك والتنكيل.
أي بشر هؤلاء الذين لا يرف لهم جفن، بل يضحكون بسعادة، بينما يقصفون البراميل المتفجرة على بشر مثلهم شاركوهم العيش لردح من الزمن وربما يعرفونهم حق المعرفة، أو حين يطلقون الرصاص عن قرب لقتل الأبرياء وحرق جثامينهم؟ ألا يقف المرء حائراً وربما عاجزاً عن تفسير الدافع الذي يشجع الانسان على قتل أخيه الانسان بهذه الصورة المؤلمة والمأساوية؟ هل كان يكفي وصم حراك السوريين بالإرهاب كي يتحرر الجلاد من انسانيته ويتوغل بكل ثقة في مثل هذا الفتك والتنكيل؟ أم الأمر يتعلق بما خلقته الطغمة الحاكمة من خوف وهلع لدى قاعدتها الطائفية في حال سقوط الحكم؟ هل للتعبئة الأيديولوجية القومية الشوفينية والوطنية العمياء دور في ذلك؟ أم قوة لوبي فساد يسيطر على الدولة ويتشبث بمصالح وامتيازات لا يريد التنازل عنها أو عن بعضها حتى لو كان الطوفان؟ أم لعل السبب هو تنامي شعور لدى المرتكبين بأنهم وبعد ما اقترفته أياديهم قد وصلوا إلى نقطة اللاعودة، وأنهم يخوضون معركة حياة وموت يرتبط وجودهم ومستقبلهم بنتائجها، خاصة أولئك الذين أوغلوا في القتل والتعذيب ويخشون ساعة الحساب؟
هو خيط طويل يظهر ما تعنيه قرارات “العفو”، التي يصدرها النظام، في فترات متباعدة، ربما لتخفيف حدة الاحتقان من جوره وبطشه وربما كمحاولة لتجميل صورته البغيضة وتبرئة نفسه من فظاعة ما ارتكب… “عفو” هو في جوهره وشكله، استهانة مستفزة بحياة البشر واحتقار لعذاباتهم ومصائرهم، فالسجان والجلاد هو نفسه صاحب العفو والمغفرة، هو السيد الوصي الذي يحق له من دون مساءلة تقرير مصير بشر يشكلون بالنسبة اليه خرافاً وربما حشرات يحل سحقها، وليس أمام المضطهدين سوى الاحتفاء بما يقدمه ظالمهم من مكارم، وربما تدبيج آيات الشكر والمديح له، وتوسل رضاه لالتماس بعض الحياة البائسة منه، ولنتذكر كيف كانت قرارات “العفو” السلطوية تشكل إدانة تلقائية وجازمة لعشرات الآلاف من مثقفين وسياسيين اكتظت بهم السجون خلال العقود الماضية ليس لسبب، سوى لأنهم تجرأوا وانتقدوا بعض ظواهر الايغال في التمييز والفساد، وغالباً ما يحرر هذا “العفو” الجلاد من مسؤوليته في انتزاع أجمل سنوات حياتهم، ويفرض عليهم الاعتراف بأنهم من أخطأوا وأساءوا الى الدولة والمجتمع، مقترناً بشرط شكر رأس النظام على مكرمته وتالياً على ما حل بهم!

ولعل ما عمّق الاستهانة بالبشر وحقوقهم وانسانيتهم، تلك الصور المؤلمة التي رافقت “العفو” الأخير، ليس لهفة أهالي المعتقلين وعذاباتهم وهم ينتظرون لأيام في الساحات العامة وحسب، وانما أيضاً الهزال المخيف لبعض المفرج عنهم وضياع عقول بعضهم الآخر، في ظل قهر وتعذيب ممنهجين في السجون والمعتقلات السورية لتجويعهم وتشتيت قدراتهم على المحاكمة والتفكير، والأسوأ أن عدد المفرج عنهم لا يتعدى المئات، منهم محتجزون حديثاً لأسباب جنائية، وآخرون من عناصر الشبيحة الموالية للنظام بعد أن تجرأوا وتجاوزوا خطوطه، بينما الأرقام تتحدث عن عشرات الآلاف من المعتقلين والمغيّبين قسرياً لا تزال مصائرهم غير معروفة ويفترض أنهم، إن بقوا أحياء، يقبعون في أماكن احتجاز لا تليق بالكائن البشري في ظل اهمال متعمد، غذائياً وصحياً، الأمر الذي تسبب ويتسبب، إلى جانب تواتر الاعدامات الفردية والجماعية، في موت العديد منهم يومياً، وهو ما أكدته الصور والفيديوهات والروايات المرعبة عن التعذيب والقتل بدم بارد، أو التمويت البطيء، مرضاً أو جوعاً، كان أوضحها وأشدها تأثيراً صور “قيصر” التي أظهرت آلاف الجثامين المرقمة لمعذبين ومجوعين حتى الموت في أقبية الأمن والسجون، وبدت أجسامهم هزيلة ومهشمة ومشوهة من الجوع ومختلف صنوف القهر والتعذيب.
بين العفو والمجزرة لا يزال الجلاد يسرح ويمرح ويعيث قتلاً وترويعاً على هواه، وينظر بعين الاستخفاف إلى عالم ينشغل بهمومه ومصالحه الضيقة، متسائلاً بمكر واستهزاء، ماذا أنتم فاعلون حين ترى عيونكم، أن هذه الوحشية في التنكيل والفتك ليست نهاية ابتكاراتي؟ أو حين تدركون أن هدوء المعارك وصمت المدافع لن يوقفا ماكينة الاعتقال والتعذيب والقتل، بل سوف تزداد جرعاتها بأبشع الصور لوأد أبسط دوافع الرفض والتمرد، وتلقين كل مطالب بالحق والحرية والكرامة درس رعب لا ينساه؟

موقع غراند – 18 أيار , 2022

الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة