تخادم المتطرفين والمستبدين في شرقنا
مقال رأي
حدث ”طوفان الأقصى“ في ٧ أكتوبر ولن يكون مابعده كما قبله، وفق عديد من المتابعين.
لن اذهب في هذا المقال الى اتهام أو تخوين ”المقاومة الاسلامية – حماس“ وشقيقاتها كما يحلو لعلمانيين كثر، آخذاً بعين الاعتبار حجم ما استثمر به الاسرائيلي المتطرف في ظاهرة حماس وانطلاقتها على يد الشيخ ”أحمد ياسين“ و“عبد العزيز الرنتيسي“ خلال توقد الانتفاضة الفلسطينية الغرّاء ١٩٨٧ في سعي متطرفي اسرائيل الواضح لتجريد “منظمة التحرير الفلسطينية“ حينها حصرية التمثيل للشعب وبالتالي شق الصف وإحراج ”ياسر عرفات“ و”فتح“ وكل الجناح الوطني المعتدل الذي ذهب الى التفاوض بالعموم واستقر في رامالله ليعلن باكورة قيام دولة فلسطين وينتزع اعترافاً دولياً واسع النطاق، وهكذا حصل ونشأت ”حماس“ ولاحقاً طردت السلطة الفلسطينية من القطاع. مما أطال بعمر الاحتلال وساهم باستمرار تلاعبه في التهرب من استحقاقات السلام وراء كل عملية تنفذها ”حماس“ وشقيقاتها. قلت لن اذهب الى التفسيرات التآمرية لكني أحاول هنا مقاربة مادة أجدها مفصلية في المشهد الفلسطيني وربما السوري أيضاً.
فمعظمنا يدرك مدى تغوّل الحكومات اليمينيّة المتشدّدة المتعاقبة في اسرائيل -سيما في العقدين المنصرمين- وهي جاءت نتيجة انتخابات ديمقراطية، لتؤكد أن التشدّد هو ابن شرعي للمجتمع الاسرائيلي المتعدد والمختلف والمتصارع وربما المتنوع حد التفكك في كثير من المفاصل، ولهذا يحتاج اسرائيل غالباً لوجود عدو متربص بها كي توحد صفوف الاسرائيليين وتنحل معضلة التفكك والاختلاف تلك أيضاً، فكيف الحال ولديهم من الأعداء كثر!! و ماذا نتوقع من الفلسطيني المحاصر والمُحتل ومنعدم الأمل أمام كل هذا الصلف والتشدد الاسرائيلي؟.. فكانت حماس والجهاد الاسلامي ونهل المقاومون الجدد وتغذوا على خطاب الكراهية الذي مارسه اليمين الاسرائيلي وحكوماته –وهو اليمين الذي اغتال رئيس وزراء اسرائيل المفاوض ”يتسحاق رابين“ بالضبط كما فعل المصريون المتشددون بـ“أنور السادات“- وساهم بذلك أيضاً تعاظم اليمين وخطاب التطرف بالعالم جله في هذه الحقبة، خطاب الاقصاء والكراهية الذي يجد من يحمّيه من الشعبويين واليمين كلما تبرّد أو تعقلن، ذاته الخطاب الذي تستولده غالبية التيارات الايديولوجية والقومية ودعاة الحروب كروسيا بوتين وكوريا كيم جونغ أون وايران الخميني والبعث الأسدي في سوريا ومثله الصدّامي في العراق والليكودي في اسرائيل وما يشابههم من كل سلطات الاستبداد والجماهير المعبئة أديولوجياً.
بالواقع –وكي لا يتصيدني الشعبوي الذي يطرب للهوشات الوطنية والتفسير المؤامراتي للتاريخ– أعيد التأكيد أنه لايحق لنا أن نعيب على ”حماس“ عملية طوفان الأقصى ونجاحها اللحظي سواء في درجات الفداء وسرعة الأداء والمهارة التي ميزت المقاتلين المدربين بصبر وعقيدة أو من استغلالهم الموفق عنصر المباغتة العسكرية، وشهدنا بالتالي عودة القضية الفلسطينية لتصدر الاهتمام بالمشهد السياسي والاعلامي الدولي. ولكن نعيب عليهم غياب الهدف السياسي لهذه العملية النوعية والكبيرة، فلا يوجد نتيجة لحرب بدون هدف سياسي واقعي قابل أن نقطفه بعد صمت المدافع.
جاء ذلك بالتوازي مع حقبة فشل ”الربيع العربي“ الحالية وتلكؤ مسارات التطبيع والسلام بالعموم، مع استمرار الغياب العربي المزمن وضياع المشروع العربي الاستراتيجي، مترافقاً مع تنامي دور إيران وقدرتها على الاستثمار السياسي –بخبث ومهارة حتى الان– من قبل مشروع الولي الفقيه عبر مليشياتها وما يسمى ”المقاومة الاسلامية“ في مختلف الساحات المستباحة شيعياً كالــ (العراق، لبنان، سوريا، اليمن) والتي كانت قد فصّلت أدوارها على قياس مصالحها الاستراتيجية في مفاوضاتها الغرب وكل الملفات بما فيه النووي الإيراني، حيث يسهل على الايراني أن يستثمر برصيد غيره من دماء الشعوب العربية وشعوب المنطقة.
ومع إدراكنا حجم التعاطف العالمي مع قضية فلسطين وما نتج عن ”٧ أكتوبر“ من تعاظم التضامن الانساني مع هول الضربات المفرطة الاسرائيلية وحرب الابادة المشرعة، دون أن نغفل أن تظاهرات أحرار العالم تدعو لوقف مسلسل الابادة التي يتعرض لها المدنيون من أطفال غزة ونساءها وشيّابها بشكل أساسي، ولم تكن دعماً لحماس أو الجهاد الاسلامي كما يحاول اعلام ”المقاومة“أن يروج، وهو القائم على خلطة خطاب الكراهية وتأثيرات تقنيات العصر من وسائل التواصل وتطبيقاتها الساخطة من مختلف الاوضاع العالمية بيئياً واقتصادياً واجتماعياً ، فراح هذا الاعلام يروج الأوهام والانتصارات المزيفة وينشر الأكاذيب والتوليفات التي تسلط الضوء على مايخدم مشروعهم من وقائع مجتزأة، إعلام انتقائي يقتات على سيل الدماء المسفوحة، ومبني أصلاً على الاقصاء والأحادية ورفض أو تبخيس الاختلاف والتعددية والتنوع التي تسم كل المجتمعات، مغفلاً بقصد تلك الوقائع والحقائق التي تتعارض مع سياساتهم الأحادية، ومتجاوزاً حجم الخسائر البشرية والبنى التحتية التي حصلت بواقع التوحش الاسرائيلي متتلمذاً على وحشية جاره بشارالاسد في حرب الابادة والتهجير، فتنافست وتجاوزت غزة الفلسطينية أدلب السورية بحجم القصف و الدمار .
قلت أن التطرف يشد أزر التطرف ويسهل استمرار توحشه ويعيد توليده، فلو أراد ”نتنياهو“ مثلاً انهاء الحرب –المحسومة النتائج- بأسرع ما يمكن لما عدم الوسيلة لكنه مالبث يطيلها مستثمراً فيما تبقى من رميات هاون حماس ومشاهد رشقاتها الصاروخية –التي باتت هزيلة الأثر حالياً– والتي تنشر قناة الجزيرة مقاطعها المصورة بتفاخر وكأنها النصر المؤزر، مرفقة بتغطية اعلامية شعبوية وتحليلات من اللواء ”الدويري“ تدغدغ قلوب المتابعين وتلاعب عواطفهم، وتستمر بالطبع نشر مقاطع الاعلام العسكري الصادرة عن حماس ما يعطي ”نتنياهو“ المزيد من التبرير لاستمرار حملات الابادة الاسرائيلية على غزة و الغزاويين خلال اسابيع التدمير والقتل وربما الشهور، لأنه يثق بالنتائج سيما اذا أخذنا عامل تردد محور الممانعين وتواطؤه واستمرار الحصار الخانق لقطاع غزة، فموازين القوى العسكرية محسومة لصالح الكيان الاسرائيلي مع الوقت.
وعليه يعود السؤال اليوم حارقاً: أين المخرج وما هو الحل؟ ويلاحقه سؤال ثاني مفاده : هل مازال الاعتدال العربي والتفاوض والتطبيع خياراً أمثل؟
نحن يا أصدقائي أمام حقيقة عقلانية لايريد أن يعترف بها أصحاب الرؤوس الحامية ومالبثوا يتهمون من يذّكر بها بالتخاذل أو التقاعس، وهي أن الجانب العربي كان قد جرّب لغة الحروب مع اسرائيل عبر العقود المنصرمة، منذ حرب النكبة ١٩٤٨ مروراً بحروب عبدالناصر والهزيمة في ١٩٦٧ وحروب السادات وحافظ وصدام في مواجهة مع الاسرائيلي والتي هي بالمحصلة مواجهة مع الغرب أيضاً المسلح بعلمه وبتقنياته وثقافته وقيمه، بالمحصلة علينا إدراك أننا أمام صراع بين مستويين حضاريين وثقافتين. فمن المنطق أن لا يسمح الغرب بتفوق خصومه عليه، وهم الذين يستخدمون في المواجهة معه منتجاته من أسلحة وتقنيات مختلفة، فكتب مفكرون كثر منذ هزيمة ١٩٦٧ وما بعدها –كــإلياس مرقص وياسين الحافظ وجورج طرابيشي وفواز الطرابلسي وغيرهم– بضرورة تأجيل المواجهة مع اسرائيل واستئخارها وربما أكثر من ذلك، حيث طالبوا بالتركيز أولاً على بناء الأوطان والانسان في المجتمعات العربية وتحقيق الديمقراطية والمواطنة وحقوق الانسان وفتح الصيرورة والعمل والابداع ومشاركة النساء والشباب بتغيير سياسي شامل في بلداننا وهذا -للاسف- ما عجز عنه “الربيع العربي” الحالي –وهذا ما عجزت عنه السلطات العربية المتعاقبة لا بل واجهته بالعموم– فذلك منطقي ومفهوم كي ندرك مستوى ما من النديّة بين العرب أصحاب الحق واسرائيل المعتدية، ما يسمح لصاحب الحق بمقارعة الاحتلال واحتمال الصمود أو الانتصار عليه في الميادين، أما أن نصارعهم بالسلاح وقصائد وشعارات خطابنا التعبوي فحسب قبل بناء الذات، فالنتيجة واضحة وهي أن المقاومة بهذه الآلية والأدوات ستكون أفضل وصفة لتدمير البلاد وهلاك الانسان وتهجير الشعوب المقهورة المتأخره والمخدرة بتراثها وأوهام الماضي ولا تمتلك قرارها مع تسلط الايديولوجية والقمع بضفتيها الحاكمة منها أو التي تنشد السلطة من المعارضات البائسة، سلطات لاتملك إلا إثارة العواطف والانفعالات وتستخدام شعوبها وقوداً في افران طغيانها واستبدادها، كما فعل الاسد وصدام وكما يفعل الايراني وسلطات الأمر الواقع اليوم وستفعلها كل السلطات الايديولوجية في الطرفين –وهذا مرشح للاستمرار بالمدى المنظور– فيتخادم الأيديولوجيون والمتطرفون بهذا، عبر صب الزيت على نار الحرب والاقتتال الموسمي، فلا نحصد إلا مزيداً من الموت والخيبات بعد كل جولة من الاقتتال (حيث تتواتر معركة أو حرب كل عقد من الزمن تقريباً، تنجلي إثرها هزيمة جديدة ووهم انتصار زائف يصدع رؤسنا به ذلك السلطان المهزوم).
ويكاد ينطبق هذا في مشهد الصراع على السلطة بسوريا كما غيرها، وتستمر المقتلة في معظم الساحات العامرة بالغلو الايديولوجي والصراعات الدينية والمذهبية أو القومية، إذ يرتفع خطاب الكراهية والاستبداد والارهاب والتطرف والعسكرة فيُسكت أزيز الرصاص وطبول الحرب صوت العقلاء والمظاهرات السلمية وتُقمع إرادة المنتفضين من أجل الحرية والتغيير باستمرار تخادم المتطرفين والمستبدين.
– وسيم حسان 7-1-2024
الاراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
🔆 You got 31 273 $. GЕТ => https://forms.yandex.com/cloud/65b9348902848f0e1bf10582/?hs=6b1928bc086075b7c7405bdeabc7eb2a& 🔆
e3dml0