رد على مقالة الاستاذ نزار بعريني (قانون مناهضة التطبيع وحقائق السياسات الأمريكية)
عموماً يحق لنا كسوريين الاحتفاء بكل خطوة على طريق الخلاص من السلطة الطغمة والاستبداد الشمولي الذي مارسته عبر نصف قرن وكل خطوة تسهم بالانتقال السياسي مرحب بها حتى ولو كانت جزئية أو قاصرة عن هذا ويبقى الفعل اللازم مطلوباً من السوريين أولا قبل أن يكون مطلوباً من الآخر ثانياً، وبهذا المعنى انطلق مقال الاستاذ البعريني دوما من مسلمة أن البيت الأبيض هو المسؤول عن كل مأساتنا فهو الذي يقود العالم وكلي القدرة ويخطط وما يفعله الاخرين سوى التنفيذ لارادة العم سام، وهذا ينافي الواقع في أكثر من تفصيل ولعلنا نكتفي الان بسرد ما يخص الواقع السوري القريب كي لا نغرق بالامثلة البعيدة.
عندما يقول الكاتب (أحاول في هذا المقال كشف ما يبدو لي نهجاً في سياسات الكونغرس بشكل خاص وقيادات مؤسسات النظام الأمريكي عموما لتصنيع رأي عام سوري نخبوي غير مدرك لحقائق مصالح وسياسات السيطرة الأمريكية، خاصة فيما يرتبط بطبيعة و وقائع “العلاقات التشاركية” مع “النظام الإيراني“) يعتبر مخطئاً أن سياسات الأمريكي واحدة ثابتة ومصدرها محدد وثابت ومستقر وهدفها فقط تركيع السوريين في حالتنا هنا، وما النخب السورية الا جاهلة وتقع في شرك هذا الفخ المبيت دوما للإيقاع بها وبهذا لاتدرك النخب السورية –ماعدا كاتب المقال بالطبع– حجم انسياقها بالخطاب الأمريكي الذي يتآمر علينا، وتروح في جهلة مروجة لأكاذيب الامريكي التي يكتشفها فقط كل حاذق ويدرك تفسير التاريخ بالمؤامرات كصاحب المقال..
وكأنه لايوجد مؤسسات اعلامية متعددة في امريكا والغرب تفضح كل شاردة وواردة، وكأنه لايوجد نواب وأعضاء مجلس شيوخ يعارضون سياسة الادارة المنتخبة او التي يختارها الرئيس المنتخب في كل مرحلة وكل حقبة، وكأنه لايوجد مراكز بحثية وجامعات مستقلة ومن مختلف الاتجاهات تنشر رأيها وموقفها المختلف والمخالف لسياسات الادارة الحاكمة، وحتى في الادارة نفسها يوجد مراكز قوى مختلفة وتناقضة أحيانا“ كخلاف الخارجية عن الدفاع عن الامن وعن المالية وما الى ذلك من تنافس الحقيقة في المجتمعات الديمقراطية الغربية عموما وفي أمريكا على وجه الخصوص.
أما حين تعرضه للتخادم الأمريكي الإيراني في المنطقة، فيذهب صاحب المقال الى اعتقاد أن الامريكي بنى إيران الولي الفقيه خطوة خطوة ولبنة لبنة، بل يذهب الى القول أن الامريكي حليف الايراني أكثر من حلفه مع الاسرائيلي في سياسات أمريكا والتسوية التي يفرضها أو سيفرضها على الجميع.
ثم يقول (برعت “خيرة” النخب السياسية والثقافية السورية في ترويج أكاذيبها، وتحويلها إلى“رأي عام” و “برامج سياسية“- كنظرية “الأقطاب العالمية “و“الانسحاب الاضطراري” من المنطقة ، لمواجهة أخطار الصعود الصيني في بحر الصين الجنوبي و ” تراخي استراتيجي” وضعف وفشل “في سياسات واشنطن و” عدم اهتمام بسوريا وفشل إقليمي “، أتاحت” استغفال” ميليشات النظام الإيراني– والروسي – تبع ” حلم المياه الدافئة ، الدفين “- للأمريكان، على طريقة “توم وجيري” لتغييب وقائع تقاطع المصالح والسياسات والجهود بين الولايات المتّحدة والنظام الإيراني( والروسي ) في دفع الصراع السياسي على السلطة خلال ٢٠١١ على مسارات الخَيار العسكري الطائفي المُدمّرة، وما نتج عن حروب مراحلها حتى نهاية ٢٠١٩ من هزيمة صيرورة الانتقال السياسي والتحوّل الديمقراطي، وتفشيل مؤسسات الدولة السورية، وتحويل ميليشيات “الثورة المضادة” إلى “سلطات أمر واقع“، تعمل على حراسة حصص ومصالح زعماء العصابة، الذين يتحكّمون بأنظمة الولايات المتّحدة وروسيا الاتحادية وجمهورية إيران الإسلامية، في واشنطن وطهران وموسكو !)
وبهذا يصر على شتم من يختلف معه بالتحليل ويعد ما يصدر عن المختلف بالأكاذيب، ولا يكتفي باقحام اديولوجياه وأوهامه بنفي الوقائع التي تفقئ العيون، فالصراعات الدولية التي تمثل الولايات المتحدة أحد أطرافها الأبرز ضمن معادلات التنافس والصراع الدولي المفتوح والممتد جغرافياً وزمنياً بالكم والنوع، بل يذهب الى القناعة بأن كل شاردة وواردة تجري بعلم وإرادة الأمريكي فهو من أطلق العصابات والفصائل والثورة المضادة وعليه لا يقتنع بحقيقة وواقع نشأتها ضمن بيئة أقل ما يقال عنها انها ذكورية وإديولوجية مغرقة في الماضي وتتربى على العنف والاقصاء، فنشأت بنى وتشكيلات وفصائل من تلك البيئة ووجدت تلاقي وربما ارتهان وتبعية لمصالح إقليمية او دولية أو تستجب لسياسات فريق ما في الادارة الامريكية كما في غيرها. فالأمريكي –المتهم هنا بتصنيع تلك الفصائل– الذي عودنا على براغماتيته في معظم السياسات قد يقبل ويتعاون مع قوى قائمة ولو لم يتفق معها أو تمثله بقبوله بإخوان مصر فترة مرسي والانتخابات، وتفاهمه مع إيران حتى بعد اختطاف موظفي السفارة في طهران ولاحقاً من أجل الاتفاق النووي، كي يضمن –كقوة عظمى– تيسير مصالح حرية الاقتصاد والحركة والملاحة والاستقرار أو الأمن التي تعتبر عماد الاقتصاد الحر والراسمالية. أما الحديث عن خطته لتفشيل السلطة السورية بسبب إرادة أمريكية، فلعمري هذا ما يثير الضحك، وكاننا أمام سلطة الأسد وحكومة منتخبة وشرعية ومتوازنة ويأتي الأمريكي ليفقدها كل هذا، ودعونا نفترض ذلك فلماذا لم تتوان هذه السلطة العتيدة عن فعل التورط بالعسكرة والحل الأمني الذي واجهت به السوريين المنتفضين في المدن ”السنيّة“ وهي تعلم ان الخصوم –وهنا المقصود أمريكا– يريدون تفشيلها؟ وكيف تذهب هذه الضحية ”البريئة“ برجليها صاغرة الى مذبح أعده لها عدوها فتكون فريسة سهلة لذباحها؟ كفانا ذر الرماد في العيون وتجاهل الوقائع على الارض لنفسر الامور بما يتوافق مع وهم الايديولوجيا التي عفى عنها الزمن والمبنية على طبخة شعبوية شمولية قومجية على اسلاموية على يساروية ملخصها ”العداء للامبريالية“ وهذا ما يدغدغ عواطف ومشاعر الصبية والمراهقين سياسياً عادة.
حين يجزم الكاتب بأن “من يرقص على طبول الحرب ويقصد النخب السورية الديمقراطية سيحصدون خيبات جديدة من الأمريكي”، يتناسى أن الواقع الموضوعي هو من يفرض تلك السيناريوهات البطيئة وغير الناجزة من عقوبات فرضت وقوانين صدرت بحق سلطة دمشق وأفرادها ويحتاج تحقق مفاعيلها تضافراً دولياً والتزاماً من عصابات ومافيات الفساد العالمي تمرر كل ترياق الحياة لمثيلاتها في العالم كالسلطة السورية.
ثم يسوق الكاتب مجموعة أسباب لهذا الاستنتاج فيزعم في (١-) أن التطبيع الابراهيمي يشمل بشار الأسد وعودته الى الجامعة العربية جاءت بإيعاز امريكي ويبخس كل من قانون قيصر والعقوبات التي يعلم القاصي والداني أن نظام دمشق يصيح ليل نهار بأعلى صوته لردها عنه مطالباً برفعها، وهي السياسة الامريكية الجديدة القديمة بعد فشلها في التدخل العسكري المباشر في أكثر من موضع بالعالم. وفي (٢-) غياب النص الذي يطعن باجراءات النظام السوري بعد ٢٠٢٠ من انتخابات رئاسية وبرلمانية وبلدية صورية….وتأهيل اقتصادي، وكأن القانون الأمريكي لمناهضة التطبيع مع الأسد كتب لينتقد لون فستان السيدة أسماء مثلاً. وفي (٣-) عدم تقديم إدارة بايدن أي دعم “لانتفاضة السويداء“، وهنا نقول فعل خيرا الأمريكي بعدم التدخل في الانتفاضة الشعبية بالسويداء لأنه سيبتليها بالتبعية وتخوينها لو فعل. وفي (٤-) يعتبر المصداقية للأمريكي اذا أصدر تشريع أو اتخاذ قرار بخروج القوات الإيرانية من سوريا، في حين أن ”السيف أصدق أنباءاً من الكتب“، فكل المجريات تشير لتموضع عسكري امريكي بالتنف يسعى لقطع شريان التواصل الايراني والمليشيات عبر حدود العراق الى سوريا ولبنان وترك مسؤولية تعقب النشاطات الايرانية في سوريا للحليف الاسرائيلي، فيكاد لايخلو يوماً من قصف اسرائيلي هنا واستهداف هناك. وفي (٥-) يحق للكاتب السباحة في بحر الافتراضات دوماً سيما التي تطربه في الحديث عن جهود التسوية السياسية الأمريكية في سوريا، وهي التي يترجى الجميع –معارضة وموالاة– حصولها للخروج من المقتلة السورية القائمة.
الخلاصة: لطالما يعفينا ”خطاب المؤامرة“ من مسؤوليتنا بالعمل والتغيير ويعمينا عما يحصل في الواقع ويحرف النظر الى أسباب أخرى خارجية ولا تتصل بارادات وقدرات أصحاب الحق بالتغيير، ليزيد من إحباطهم وتقاعسهم وينقل مسؤولية التغيير الى غير محركاتها القائمة على نوايا وإرادات الخارج –وهو الشيطان هنا– ليعود ويكرر اسطوانة أن سبب ضعفنا هو الاستعمار المتحكم، حتى حين يقر هذا المستعمر بفشله ويغادر من الموقع الذي دخله، … ما زال الرهان على الخطاب العقلاني وما زلنا بحاجة الى تقويم البوصلة والاشارة الى مواضع الخلل الحقيقية في واقعنا ووعينا قبل أن تكون بالمؤامرة أو السياسات الخارجية العالمية، برغم تلك العلاقة الجدلية بين الواقع المحلي والعالمي دوماً.
————===========———————- شباط/فبراير 2024