معارك الشمال الغربي في سورية – تقدير موقف
خلال العام الجاري، بادرت العديد من الدول الإقليمية والدولية إلى التواصل المباشر مع نظام دمشق انطلاقاً من ضرورة الحفاظ على (الدولة) السورية وضرورات ضبط الوضع الأمني والاقتصادي ووقف تهريب المخدرات وفك الارتباط مع إيران وميليشياتها في سورية ولبنان والعراق. جميع تلك المبادرات والجهود السعودية والروسية والدعوات التركية ذهبت إلى سلة مهملات السلطة الطغمة من موقعها الرافض لمنطق التسوية السياسية. وبقي التعويل على الدعم الإيراني والروسي هو النقطة المركزية التي يتمسك بها النظام في مواجهة الاستحقاقات الداخلية والإقليمية والدولية؛ كما لا يخفى على المتابع تعثر مسار أستانا في آخر اجتماع لها بسبب رفض السلطة لأي جلوس إلى طاولة المفاوضات مع تركيا وإلحاح الروس على تنفيذ شروط السلطة بتعهد تركيا بالانسحاب من الأراضي السورية باعتبارها محتلة، مما أدى إلى انفراط عقد الاجتماع بدون نتائج لصالح المسار السياسي الذي تفترضه أستانا.
من الواضح أيضاً أن تركيا قد حسمت أمورها خلال العام الجاري تجاه مسألتين؛ الأولى: تتعلق باللاجئين السوريين وضرورة إعادة أكبر عدد منهم إلى الداخل السوري. والثانية: تحريك هذا الاستنقاع بعد ظهور العجز الروسي عن فرض الحل وفق هذا المسار على النظام السوري وظهور العجز الإيراني وأذرعها بعد حرب لبنان وغزة. وقد جاءت بوادر هذا الحسم في تصريحات أردوغان حول منطقة آمنة من البحر المتوسط إلى سنجار في العراق والتحضيرات العسكرية لفصائل (الجيش الوطني) وهيئة تحرير الشام بانتظار ساعة الصفر للتحرك العسكري الذي بدأ الأربعاء 27 تشرين الثاني.
من الواضح أيضاً أن النية قد نضجت لحظة إعلان وقف إطلاق النار في لبنان لبدء المعركة التي انطلقت من ريفي حلب وإدلب وكأنها انتقال مباشر للحرب التي توقفت للتو في لبنان، لكن المؤكد أن التعليمات التركية قد حددت بدقة ساعة العمل وأكثر من ذلك، وربما الأهم، التعليمات والتحضيرات التي سبقت العملية؛ ونعني بذلك غرفة العمليات المشتركة والهدف المعلن (ردع العدوان) وطريقة التعامل مع سكان المناطق التي ستدخلها هذه الفصائل والتقيد برفع علم الاستقلال دون سواه على الرغم من ظهور بعض الخروقات، لكن المؤكد أن المقاتلين قد تقيدوا بالكثير من التعليمات والضوابط.
إذن، استغلت فصائل المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) انسحاب الميليشيا الشيعية التي تمركزت منذ 2020 في الجنوب وفي مطار حلب وعلى الطريق M5 لتتقدم وسط ذهول المراقبين لسرعة انهيار دفاعات جيش السلطة وحجم الهجوم الكبير ودرجة تنظيمه والمعدات المستخدمة، وبالمحصلة سقطت معظم أحياء حلب المدينة ومعظم ريفها الجنوبي والغربي وكامل ريف إدلب الشرقي المحاذي للـ M5 بيد المهاجمين.
إن من أهم العوامل التي سرعت انهيار دفاعات جيش السلطة عدم مشاركة الطيران الروسي خلال ال 72 ساعة الأولى من المعركة، وقد اتضح بجلاء مقدار التخبط داخل الجيش السوري وقواته الجوية في حال أصبح وحيداً في ميدان المعركة، ويبدو أن تعهد روسيا بتقديم الدعم الجوي بعد مضي أربعة أيام كاملة قد دفع قيادة أركان الجيش السوري إلى إعطاء الأوامر بالانسحاب إلى نقاط تمركز حول مدينتي حماه وحمص، ولا غرابة في هذا فموقع حمص وحماه يشكل عقدة الوسط في الجغرافيا السورية، مما يعني في حال سقوطهما قطع الطريق الواصل بين الساحل السوري والعاصمة دمشق بما يمثله هذا الانقطاع من تحجيم للسلطة وقدرتها على الحركة والتواصل، وبما يعنيه من تهديد مباشر لشريحة كبيرة من حاضنة السلطة في ريفي حمص وحماه والحدود مع لبنان، وباختصار، من إطباق على كامل المجال الحيوي للسلطة الطغمة.
لا شك أن المتابع قد انتظر ردود الفعل الإقليمية والدولية على ما يجري، لكن اللافت أكثر كان إحجام السلطة عن تقديم أي تصريح رسمي يقدمه مسؤول في (الدولة) السورية واقتصرت التصريحات على بيانات عبر وكالة الصحافة السورية سانا أصدرها مصدر مجهول من الجيش السوري، وغابت وزارة الداخلية والدفاع والحكومة والرئيس، وقد يزول العجب إذا علمنا أن رأس السلطة كان في زيارة لروسيا استمرت بتقديرنا أربعة أيام، وفي هذا الأثناء لا يمكن لأحد أن يصرح أو يصدر أمر بالمواجهة طالما صاحب النهي والأمر غائباً في موسكو، فلا دولة في غياب رأسها. اللافت أيضاً أن الكثير من المتحدثين باسم السلطة على الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى أظهروا الكثير من العجز والارتباك أمام الأسئلة المشروعة للصحفيين. إنها الصورة الأكثر بؤساً عن مآلات الوضع في سورية.
وبعد أن بدأت التصريحات الدولية تتوالى في الصدور بدءاً من تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان وانتهاءً بتصريحات وزراء خارجية مصر والأردن وفرنسا فقد بات واضحاً بؤس الخطاب العربي وثبات الخطاب الغربي، الأمريكي أولاً والأوربي ثانياً؛ فمقابل تركيز خطاب الإمارات والأردن ومصر على دعم (الدولة) السورية جاء الخطاب الأمريكي والفرنسي متوازناً ومحدداً لأسباب المعركة ومطالباً الفصائل بتحييد المدنيين والتقيد بشرعة حقوق الإنسان وحماية الأقليات الدينية والقومية والالتزام بمكافحة الإرهاب الممثل بداعش.
منذ يومين تدور المعركة على أبواب مدينة حماه، وقد بدأ القصف بواسطة الطيران السوري والروسي، وهو ما ستفعله السلطة وحلفائها الآن، فأمام عجز القوات النظامية عن اقتحام المواقع التي أخذتها الفصائل لا يبقى أمام السلطة سوى القصف والرمايات. لذلك، نرجح أن نرى خلال الأيام القليلة القادمة الكثير من الصواريخ والقذائف وقنابل الطائرات على مناطق سيطرة الفصائل ريثما يتحدد المسار التالي؛ ونحن نرجح أن يستمر النظام في تعنته في رفض الحل السياسي وفق القرار 2254، وأن ينتقل بتثاقل إلى القبول بالحل على طريقة مسار أستانا وبمساع روسية، ويبقى التقدير الأهم في هذا الصدد هو موقف الرئيس التركي أردوغان، فهل سيقبل بالعودة إلى مسار أستانا– وهذا ما نرجحه– بعد ضعف الدور الإيراني في سورية وفي عموم المنطقة وبعد النجاح المذهل الذي حققته الفصائل المدعومة تركياً على الأرض، فقد صارت نسبة الأراضي خارج سيطرة السلطة أكثر من 20 بالمائة من مساحة سورية وأكثر منها بقليل تحت سيطرة الإدارة الذاتية!
من الصعب التكهن بسلوك السلطة خلال الأسابيع القادمة خاصة بعد التعنت الكبير الذي أظهره رأس السلطة في تعامله مع المطالب التركية المتكررة خلال السنتين الماضيتين وعلى الرغم من الضغوط الروسية المرافقة للمطالب التركية، لكن الوقائع العنيدة الناشئة على الأرض تجعلنا نعتقد أن الوضع السوري في المستقبل القريب ذاهب باتجاه أحد أو أكثر من الاحتمالات التالية:
1. محاولة الفصائل البقاء في إطار تنظيمي موحد بقيادة هيئة تحرير الشام.
2. ظهور الخلافات داخل هذا التحالف على أرضية المعارك التي يمكن أن تباشرها فصائل الجيش (الوطني) ضد قوات حماية الشعب الكردية في مناطق شمال حلب (الشيخ مقصود والشيخ نجار) وهي مناطق نزح إليها أكثر من 100 ألف مدني من عفرين، وبين الهيئة التي تحافظ على درجة أعلى من الاستقلالية عن الداعم التركي والتي قد ترى أن هذه المعركة قد تؤدي إلى مشاكل مع أمريكا والأوربيين والتي لا مصلحة للسوريين بها.
3. من الممكن أن تكبح إدارة أردوغان الفصائل من التوجه إلى شرق الفرات تجنباً للفيتو الأمريكي والغربي عموماً.
ختاماً، نحن في تيار مواطنة نطالب المجتمع الدولي وضع حد لهذه الحروب والمجازر في سورية، ووضع القرار 2254 موضع التطبيق الذي لا يقبل التأجيل، فملايين السوريين وعشرات آلاف المغيبين قسرياً بحاجة لبيوتهم ولأن يعيشوا في دولة تحترم إنسانيتهم وتصون كرامتهم، ونؤكد بدورنا على أن الدولة المنشودة لا يمكن أن تقوم إلا على مبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وعلى الاحترام الكامل للمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الأفراد والجماعات ومبادئ ديمقراطية وعلمانية الدولة.
المكتب الاعلامي في تيار مواطنة
٤-١٢-٢٠٢٤
اترك رداً