الرقص في عرس الأم ـ عزيز تبسي *
في الحديقة، تحمل السيدة الكردية النازحة من حي الشيخ مقصود الغربي، كيساً بلاستيكياً ملوناً وتدخل به دورة المياه القريبة، لتخرج بعد دقائق مرتدية بأناقة منامتها السماوية المرقشة بزهيرات بابونج كحلية متسقة مع أرضية القماش المؤنسة. تضع حذاءها قرب حقيبتها الجلدية وكأنها في غرفة نومها، قبل أن تجثو وتتكور فوق الغطاء الصوفي السميك الممدد فوق العشب، بين ولديها اللذين انتظرا عودتها بجذعيهما المنتصبين كسنجابين مذعورين، يلتصقان بها قبل أن يغيبوا جميعاً تحت الغطاء الثقيل الغامق، قربهم الحقيبة الجلدية السوداء مركونة على بطنها تستند عليها مجموعة من الأكياس البلاستيكية المنفوخة. في أواخر الليل تأتي القطط لتشمهم وتمضي بعد التيقن أن لا شيء يؤكل فيها.
في الصباح يتحلق الأولاد، حول والدهم العائد من المخبز البعيد، أمام سور المدرسة التي تؤوي النازحين، يوزع عليهم أرغفتهم، وهي حصصهم الغذائية، يطويها كل بدوره ويضعها في كيس صغير، حيث باتوا يفهمون بعد تكرار الواقعة أنه لا طعام طيلة اليوم غير هذه الأرغفة المطوية ككراسات النحو والإعراب.
في الحروب الأهلية ينبغي أن تكون حمولتكم، أي ملابسكم، حقائبكم، أسرتكم… خفيفة. ويستحسن أن تخففوا الكلام أمام الفضوليين والمتحوّلين سياسياً وفكرياً، ولا بد لكم من عينين مبصرتين تحدقان في عمق الأشياء، ومن عقد أخلاقي لا يحنث قسمه مع الشعب الثائر والحقيقة.
يحصل كل ما لا تتوقعونه من مظاهر لا يكتب عنها في جنون الوقائع الدموية، رجال يذكِّرون نساءهم بطوائفهن الانتحارية، ونساء يدسسن السم لأزواجهن بعد اكتشاف دورهم في التشبيح، طلاقات بائنة، إقدامات سهلة على الانتحار للتخلص من حزمة شروط أشد انتحارية، تفرضها حالات التعايش بين أناس باتت كل المؤشرات تؤكد استحالة تعايشهم، أصدقاء يشينون بأصدقاء طفولتهم، جيران يتبادلون صفق الأبواب في وجوه بعضهم بعد خلاف على تقييم الوقائع اليومية، أخ يترك أخاه ينزف ويمضي لمتابعة المؤتمر الصحافي لأجيال جديدة من التماسيح، تتقدم بأفكاكها الهاصرة وربطات عنقها المتدلية كبندولات الساعات الجدارية، خالطة عن قصد لغوي بين السلْم والسلّم، معارضون يسكنون أوجاع نوبات الحرية الدورية بالإقامة النهائية قرب الثكنات العسكرية، منشقون يلوذون بفنادق المعارضة ومنتجعاتها، ولمّا تزل أخبار تقاريرهم في الثورة وأبنائها وأحفادها على طاولات أجهزة المخابرات، بقرات تتنزه بين جثث القتلى في الشوارع العريضة تحت سطوة أحمر الشفاه ومظلته، ثيران هائجة تقتحم رياض الأطفال بغايات شريفة عفيفة.
أناس يتركون القتلى وصراخات الجرحى على الإسفلت ويولون الأدبار، ليبكوا عليهم فوق مقابر الصفحات الإلكترونية وشواهدها، ويكرمونهم بباقات زهور من «لايكات»…
رجال يتملقون أعراف ديكة المعارضة ودجاجاتها، مطلقين عليهم غير أسمائهم كالتاج والهالة القدسية على سبيل المثال… وهناك النساء الدبقات كقطع الحلوى، والمنفرجات الشفاه كموظفات شركات الطيران والبائعات في صالات الألبسة، يمخرن بكلمات لجة أمواج الثورات الشعبية وكأنهن يتهيأن للوصال مع أجيال محسنة وراثياً من القردة. وكان قد كتب المعلم الكبير قبل وفاته: احترسوا، ليس وراء كل رشقة رصاص ثورة…
نعم، هناك الضابط المتوتر، يستعجل المسلحون مهمته، ويفتحون أمامه الطرقات برشقات طلقات مواظبة، تقطع في طريقها أسلاك الكهرباء وتقتل أناسا ما زالوا مقتنعين بهناءة الجلوس في الشرفات لاحتساء كوب شاي، وللاستماع لنشرة أخبار من الراديو أو بعض من أغاني أم كلثوم. وهناك الطلقات في الجنازات الفاخرة لجنود تناولوا أكثر مما يجب من معلبات السردين، وأتوا على مؤونة بيوت الأعداء، وهي فرصة لرفاقهم كذلك لتذكير السابلة الجافلة، بحضور وعلو نعل الخوف وجزمته ورسوخهما.
ويقول بدوره للشباب العجول: لا يغرّنكم وضع الديموقراطية كلاحقة في ذيل أسماء الأحزاب المستحدثة، فالاستبداد فيها أعمق من الآبار الارتوازية، وحذار التعريف بالديموقراطية وفق الصياغات الدعائية للصابون ومعاجين الأسنان وحفاضات الأطفال.
***
لا ينبغي إهمال التقارير الأخلاقية عن الثورات، كأن تقرأوا بإتمام مؤكد، الكتابات المتعددة عن السرقات، سرقات مؤسسات الدولة ومصانعها ومزارعها ومستودعاتها، سرقات المعامل الصناعية الخاصة والورشات المتوسطة والصغيرة وبيوت الناس الذين لم يستكملوا سداد أقساطها وأقساط أثاثها، سرقة المعونات الغذائية من فم الأطفال وأمهاتهم وبيعها بعد ذلك في السوق السوداء، سرقات الأدوية من قرب أسّرة الجرحى وعمق المستوصفات…. ومن الضرورة أن تقرأوا عن الرشاوي والكذب والبيانات الثورية المزيفة التي تنذر القتلى بالقتل، والجوعى بالجوع، وتدق النصال في لحم الشعب، الذي بالكاد تمكن من التعرف على نفسه في مرآة الوقائع، وعن الحقوق في انفصالها والتصاقها بالقوة المادية الحربية أو المالية، والرغبة في التهميش التي تتقنها وتمارسها المعارضة الهزلية، بدوافع الطغمة العسكرية وأدواتها الإعلامية نفسها… هذه كلها ستحقق التهيئة المنهجية لسرقة أكبر.
ـــ وهل بعد ذلك سرقة أكبر؟
ـــ سرقة الثورة.
ـــ وتُسرق الثورات أيضاً؟
ـــ نعم، لكن ليس كسرقة محفظة معلم ابتدائي فور خروجه من بوابة غرفة المحاسبة، تبدأ سرقة الثورة بإطفاء النور في عينيها.
***
يخابر من بعيد ليتحدث بإسهاب عن التفاؤل، كأن يأمل وصول الضابط الكبير قبل صواريخه، ليتأكد من صوابية مكان سقوطها وانفجارها، وآثارها المحدودة، التي تقتصر على الكتائب المقاتلة التكفيرية على وجه الخصوص، أو للتأكد من إزالة الأبنية والعمارات المخالفة للمخطط البلدي، أو توسيع الأزقة الضيقة، مكرراً دون بصيرة أحدث تقنيات الإعلام الفاشي. ويخابر آخر ليتحدث عن الثورات كغنائيات شعرية… ومشاريع لتعلم الإنشاء والتعبير والبلاغة، بتجاهل متعمد لكل المشاكل والمآزق التي تواجهها ولم تستطع التفلت منها، والفرادة بلعن السلطة في الصباح والدعوة لالتهامها كطبق مهلبية أول المساء.
لكن في حمأة المشاغل اليومية، نسي إخبارهم أنه رغم مصول الشجاعة والتفاؤل، لمّا يزل العابرون إلى أحلامهم، مسكونين بخوف النظر إلى الأعلى، كي لا يتضايق سائق المروحية ومساعدوه ويتعقبونهم بالرصاص. وأنهم يسيرون في الطريق المتعرج ورؤوسهم منحنية إلى الأسفل، يعاينون البلاط المهشم والإسفلت المفتت، ويصطدموا من حين لآخر بأكتاف بعضهم، ليتبادلوا بعدها الاعتذارات.
لكن المتصلين يتفقان من خلف البحار على النصيحة ذاتها: لا تنسَ حين يوشكون مهاجمة منطقة سكنك، من أن تكون مستعداً بوضع أشيائك الثمينة في حقيبة…
ولا يمهلانه ليقول لهما: لم يبقَ عندي أشياء من التي تحسبونها ثمينة! والأشياء الأخرى التي لم تنبهاني إلى ضرورة الاهتمام بها، وهي الثمينة حقاً، لا توضع في حقائب.
السفير العربي
17/7/2013