«فاست فود» في السياسة ـ نهلة الشهال
بالمقدار ذاته من الجدية، قيل إنه «زمن» الإسلام السياسي، ويقال اليوم، بفارق عام أو يكاد، إن الإسلام السـياسي «انـتهى»! هـكذا بلا وجل. وفي الحالتين، تقدّم مبررات متعددة وعلى قدر من القطعية، ويبدو صاحب كل قول في هذا الاتجاه أو ذاك، وهو أحياناً الشخص نفسه، في غاية الثقة برأيه والحماسة له، بما يوحي حتى بتعصب. وليس الموضوع نفسه سوى واحد من بين كثير سواه، بل ربما كان نموذجاً لكل ما يجري تناوله، بمعنى أن الأمر تحول إلى طريقة حتى لا نقول منهجاً، وأنه طاغ.
قبل هذه المقولة حول حتمية «الإخوان»- سقوطهم، سادت أخرى تتناول قوة «الإخوان»، فقيل في تفسير صعودهم إنهم الأكفأ والأكثر تنظيماً… إلى آخر أفعال التفضيل، ووُصف -بإعجاب أو بتوجس لا فرق- مقدارُ سطوتهم وشعبيتهم، وتجشم بعض الكتاب عناء تعداد المؤسسات الخـيـريـة والخدماتية المتغلغلة في المجتمع الـتي أنـشأتها تنظيمات «الإخوان» في مصر وتونـس والمغرب، حيث بدوا ممسكين بزمام الأمور… ثم خطورة علاقاتهم الإقليمية والدولية، وما يمارسونه في العلن وما يفترض لهم في السر. ومـن المـدهش أن يـبـدو ذلك الهرم الجبار قابلاً للذوبـان كقطـعة ملح، ولا بد أن يكون في التوصيف الأول كثير من الاسـتـعـجال ومجانبة الدقة والتدقـيـق، ووقـوع تـحت تأثيـر الظاهر وما يقال وما يبـدو (من دون أن يكون ما أشير إليه وهماً أو اختراعاً). ومن المتوقع اليوم أن تبدأ في الظهور المقالات التي تتناول هذا «النمر من ورق»، وتستفيض في وصف قلة الكفاءة والتخبط والارتـجال والابتذال الذي ظهر عليه «الإخوان»، بل وتـسخر. وهـي أوصـاف صحـيحة، لكنها ليست أحادية، ولا بد لفهم تأثيرها ودورها من إعادتها إلى صورة أكثر تشابكاً على المستويات كافة.
هو الـ «فاست فود» في الفكر والسياسة والكتابة، بما فيها تلك الأدبية التي راحت تميل دور النشر إلى قبولها، حيث هناك مكونات للوصفة المرغوبة. والحصيلة إنتاج منمّط، متشابه وسريع، لا يُتوقع فيه أن تُظهِر أي وجبة فوارق عن أختها، اللهم إلا في بعض البهارات المصاحبة، حيث تُقترح خيارات، أو يترك مجال لخلطات. والأهم، أن إحدى من وظائف التحليل تُفتقد هنا، أي القدرة على الاستباق والتوقع، ليس تنجيماً وضرباً بالغيب، بل بناء على نظرة (أكاد أن أقول ذائقة) تجبر نفسها على التقاط مجمل المشهد من جهة، وتبحث من جهة أخرى عن الديناميات الفاعلة، مفترضة أصلاً أنها متعددة ومتداخلة بطريقة تفاعلية، وأنها تفتح الموقف على احتمالات وليس على حتمية صمّاء.
إنه تعقيد الواقع في مواجهة ميل ساحق إلى التبسيط، إلى قصْر المعطيات على نظام من المتضادات، لعل الكاريكاتور الأوضح له هو حالة الاستقطاب السائد بين كتلتي 8 آذار و14 آذار في لبنان، حتى أنه بات يكفي ذكر الأرقام («8 و14»، هكذا بتجريد) لتلخيص العالم… وأما أن تُفكك هذه الثنائية القطعية، فيبدو أمراً مزعجاً للجميع، وتعقيداً يتجاوز المزاج العام الذي يميل إلى هندسة الموقف بتبسيط، تفسيراً للانتشار اللامتناهي لحروب داحس والغبراء… في لبنان وسواه، وعلى المستويات كافة، وليـس تلك الـسـياسية منها فحسب. وهو واقع قائم مهما تفاوتت حدة العنف المصاحب له حكماً، وفق المكان والزمان والموضوع.
تترافق هذه الوضعية مع قرين لها، هو الإسهاب في شرح ما يريده أو لا يريده الأميركيون. ويمكن آلاف النصوص والدراسات أن تتناول كيف تغيَّرَ العالم، ومعه الاستعمار، وكيف أن «حوادث» مثل أفغانستان والعراق (مع الاعتذار من عذابات شعبي البلدين التي فاقت كل خيال وما زالت مستمرة)، هما استثناء فاقع، أو شواذ، بناء على تموضعهما في لحظة انهيار الثنائية القطبية وحسم الحرب الباردة، ومصادفتهما لمجموعة قيادية سياسية/ إيديولوجية/ صناعية/ «بزنسية» خاصة جداً في أميركا، ليس مصادفةً نعْتُها بـ «المحافظين الجدد»… عبثاً! فما زال السائد في المتداول عندنا يسعى إلى تفحص ما «أراده» الأميركيون في مصر، الذين دعموا «الإخوان» فصعدوا، ثم تخلوا عنهم فـسـقـطوا. هـكذا! وما زال مـقدمـو برامـج يصادف أن يقابلوني، يطرحـون عليّ سؤالاً موحداً منمّطاً: «مَن يمكنه أن يضرب بقبضته على الطاولة وينهي الموقف في سورية؟»، في إشارة ضمنية إلى «تقاعس» الأميركيين، وإلى شبهة غامضة تقف خلف ذلك. وحين تكون الإجابة «لا أحد!»، وأن التاريخ لا يسير بواسـطة عـصـا سـحرية، ولا بواسطة تفـاهمات وصفقات في الكواليس، من دون إنكار وجودها («هه، ها قد اعترفتِ»!)، حينها يصاب المستجوِب بالإحباط والحزن، فهو -كسائر الناس- يريد مخلِّصاً.
وثمة متلازمة أخرى لتلك الحالة، هي ضرورة الإدهاش: أن يقال شيء «جديد» و «صادم» يعْلق في الأذهان ويتم تداوله بواسطة «تويتر» مثلاً، جملة أو صيغة مناسبة، «مهضومة» أو صاعقة، تظهر شطارة المتحدث وتشهره. وبما أننا في عصر الاستعراض الحي، (الـshow على طريقة برامج الواقع)، والـ «فاسـت فـود»، والتـبسـيط مـعاً، فلا بـد للسـياسـي أولاً من أن يتـقن صنعـته وفـق هذه المتطلبات. وما زال المرء حائراً بين اعتبار الرئيس المصري «حرِّيفاً» لهذه الجهة، بسبب صيغ أطلقها، مثل «عشيرتي» في يومه الأول، أو «وما أدراك ما الستينات» الشهيرتين، وبعدها تلك الجمل الغامضة التي يُفترض أنها كانت موجهة للاستهلاك. حاول ولم يوفَّقْ؟ أم هو طبعه البلدي الأصلي والتلقائي… الذي لم يكن موفقاً كذلك، فلم يؤدِّ إلى المفعول المأمول. وهذه الوضعية تخص العالم بأسره، وليس بلادَنا فحسب، وهي انفجرت منذ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي اللحظوية، مثل «فايسبوك» و «تويتر» والهواتف الذكية: لا بد من الاختصار والتبسيط والجمل البرّاقة أو الصادمة، ليتناسب المضمون مع تلك الأدوات! هذا واقع، ولا بد لكل تطور تكنولوجي (عبر التاريخ، منذ اختراع النار والعجلة وحتى الطباعة ثم الإنترنت) أن يغيّر العلاقات الاجتماعية وليس الثقافة والمزاج العامين فحسب. وأما المثقف، فمنْ يدرك كل ذلك، يعرفه، ولا يخضع له.
الحياةـ ٢١ يوليو ٢٠١٣