النظام السوري يعتقل الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي: شاهد المذبحة الواقف على التل!
لندن ‘القدس العربي’:قال ناشطون سوريون إن السلطات السورية اعتقلت مساء الخميس الفنان التشكيلي السوري الشهير يوسف عبدلكي، من دون مذكرة اعتقال واقتادته إلى جهة مجهولة.
وذكر الناشطون، لوكالة الأنباء الألمانية، أن قوات الأمن السورية اعتقلت عبدلكي وهو صاحب نشاط سياسي معارض وشخصين آخرين في مدينة ‘طرطوس′ الساحلية.
وعبدلكي فنان تشكيلي سوري ولد في القامشلي عام 1951، وهو حاصل على إجازة من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1976 وعلى دبلوم حفر من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1986 ثم الدكتوراه من جامعة باريس الثامنة عام 1989.
واعتقلت السلطات الفنان عبد لكي واثنين من رفاقه، هما عدنان الدبس وتوفيق عمران، على احد الحواجز خارج مدينة طرطوس الساحلية ، بينما ينتمي الرجال الثلاثة لاحد الأحزاب الشيوعية.
وأقام عبد لكي في فرنسا لنحو عقدين من الزمن حيث كان مطلوبا، وممنوعا من دخول بلاده،إلا انه عاد إلى دمشق في السنوات الأخيرة قبل اندلاع الثورة السورية. ونذكر أن عبدلكي الذي برع في رسم الكاركاتير السياسي وكان رساما لأكثر من صحيفة عربية هو أول رسام كاريكاتيري لصحيفة ‘القدس العربي’ منذ انطلاقتها في ربيع عام 1989.
ارتبط عبدلكي، الذي يعتبر واحدا من أهم الفنانين التشكيليين العرب خصوصا في فن الحفر (الغرافيك)، بعدد واسع من الصداقات بكتاب وشعراء عرب من بينهم الشاعر السوري المعروف نزيه أبو عفش الذي أخذ عليه المثقفون السوريون موقفه المعارض للثورة السورية.. وكان أبو عفش قد خصنا بشهادة عن يوسف عبدلكي وأعماله قبل عشر سنين نقتطف منها ما يبدو كأن الشاعر يخاطب فيها اللحظة السورية والعربية الراهنة وموقف يوسف عبدلكي منها:
رحلة سيزيفية
عرفت يوسف عبدلكي منذ أكثر من ثلاثين سنة. كان مجرد هاوي رسم مفتون بقوة الأمل، وكنت مجرد هاوي كلمات ابشر بخيبته. على هذه المائدة الملتبسة التقينا، وعلى طرفيها قامت أجمل ولائم الصداقة.
ومنذ ذلك الحين ) رغم جميع الخيبات والمحن والكوارث والإعطاب الروحية التي تخلفها عقائد الاستبداد والمطاردات والسجون) ويوسف عبدلكي ما زال يأمل. يأمل بريشته ويأمل بقلبه، ويواصل رحلته السيزيفية الآملة الى أعالي الهاوية: هاوية الانسان.
روح غير قابلة للهدم: ذلك ما كانه يوسف عبدلكي، وذلك ما سوف يبقاه: إنسان يأمل! وعلى اللقمة المريرة لذلك الأمل الضاري كان يتغذى ويواصل حياكة حلم حياته، بالأسود والأبيض حينا، وبالأسود والأسود حينا، وبإيمان من يكابد ويأمل ويثق.. في جميع الاحيان.
كان بإيمانه وشجاعة أحلامه، وبموهبته قبل كل شيء، أشبه بدودة عزلاء تحفر فضاء حياتها في كتلة هائلة من الغرانيت (وعموما.. ما الذي يفعله الفنانون غير ذلك؟) ولكنه، طوال تلك الرحلة الدودية المضنية في دماغ الصخر الأصم، كان قادرا، بدأب الباحث الشجاع، على حياكة أنبل الأحلام وأكثرها استقامة وعلوا وإثارة لأسئلة الضمير والعقل، وفوق ذلك كله، بل وقبل ذلك كله، استطاع ان يظل مخلصا للسؤال الأشق والأكثر جوهرية وإلحاحا: سؤال الفن: الفن الذي لا يمكن ان يتنازل عنه إلا في حالة واحدة: التنازل عن الشرط الأول في دستور العقيدة الفنية.. اقصد شرط الإيمان.
قلت الإيمان واعني ذلك تماما. ولعل الفارق الجوهري الذي يميز يوسف عبدلكي وأمثاله من عائلة العبدة المؤمنين، عن سواهم من الشغيلة الطارئين على هذه العقيدة، ليس مجرد فارق في المهارة والخيال كما يقول جون برجر، وإنما هو فارق أخلاقي أيضا: انه ـ تماما ـ الفارق الجوهري بين المؤمن الحقيقي وبين المخادع الصغير الذي يتسلل الى المعبد ليتسول صدقات الآلهة.
كان يوسف إذا يراهن على نفسه وطاقاته، إنما يراهن على إيمانه أيضا، وبالتالي على ضرورة ـ بل وحتمية ـ ان يكون الفن هو الغاية التي لا يجوز التفريط بقيمها. ولإدراك هذه الغاية لا يتوقف الفنان (ذو النسب الإيماني) عن ذرف الكثير من الأحلام، والكثير من الغصات والشهوات، والكثير الكثير من آلام العقل والقلب، وعرق مكابداتهما المضنية في الطريق الى الطرف الثاني من الصخرة: طرف الحياة.
فإذن: لا تفريط برسالة الفن أيا كانت المسوغات التي تمليها الضرورات التاريخية على الفنان المشتغل في ميدان الأمل/ميدان الالتباسات الكبرى، والزوغانات الكبرى، والمخاتلات الكبرى: ميدان العمل السياسي. لا تفريط برسالة الفن: بل ـ وهذا ما فرضه يوسف عبدلكي على نفسه منذ البدايات ـ ان على الفنان المشتغل في متاهات ما يسمي بـ الهم العام ان ينتج فنا أكثر فنية، وأكثر رهافة.. وأكثر كمالا أيضا. القيم العظيمة لا تكفر عن خطايا الأداء الركيك. وبالتالي: الفن ليس دار أيتام مفتوحة لرعاية المعاقين من ذوي النوايا الطيبة. الفن حرب أبدية مع الكمال.
الكمال ؟ ما أرعب هذه الكلمة! ما أفظع هذا الطموح!
منذ ذلك الوقت ويوسف عبدلكي يتعارك مع كماله. ينقضه ويعليه. يشك ويوقن. لا يكاد ينتهي من مطاردة حلم (أو مطاردة كابوس) حتي يقلب الخريطة كلها.. ليبدأ من جديد.
ودائما كانت لديه نقطة صفر جديدة ينطلق منها. دائما كان لديه ما يحلمه، ويعيش لأجله. ودائما لديه ما يكفي من زوادة الزاهد، الحكيم، الصارم والمتطلب: عابد الفن.
من المستحيل على أي فنان ان يواصل ـ سنة بعد سنة ومجازفة بعد مجازفة ـ النحت في صخرة أحلامه ويظل جيدا. لكن يوسف عبدلكي استطاع ان يفعل. وعلى أي حال:
ثمة في تاريخ الأحلام ـ تاريخ الفن والشعر والموسيقي وسواها ـ أسماء كثيرة لأناس امتلكوا الشجاعة الفنية نفسها، والشجاعة الروحية نفسها، وشجاعة تقديس قيم الفن نفسها. كثيرون وكثيرون كان الفن الخالص هاجس حياتهم، أو ربما هاجس موتهم (موزار، فان كومخ، رامبو..الخ) كان أصابعهم ـ أصابع أرواحهم ـ قادرة، في اشق الظروف، على حلم ذلك الكمال.. وعلى ملامسته أيضا.
حسنا، اعرف وتعرفون: في الفن (مثلما في الفلسفة والعلوم) استحالة بلوغ الكمال هي الدافع الأكثر إلحاحا لمطارداته والسعي الى إدراكه. على ان يوسف ـ شأنه شأن كثيرين من معاصريه، وممن سبقوه ـ كان في الكثير مما أنجزه يلامس هذا الكمال القاسي ـ كماله الخاص، ثم لا يلبث ان يتجاوزه الى كمال آخر، أي الى أمل آخر، الى كمين إبداعي آخر، أو قل: الى خيبة أخرى.
هي ذي تراجيديا العابد الأصيل: يصل ليعاود البدء. ويبلغ.. ليخيب.
منذ بداياته الأولى ويوسف عبدلكي ـ في مسعاه التعبيري ـ مأخوذ بجوهر رسالته قدر ما هو مأخوذ بصياغتها ودلالاتها البصرية (سمها دلالة السطح). تعنيه الفكرة في كل نأمة وفي كل انحناءة خط، وكل تفصيل قد يبدو ثانويا، لكنه، في كل هذه التدقيقات الصارمة، لا يتنازل لصالح الإنشاء: ان اشتغاله على تفاصيل وهوامش السطح إنما هو اشتغال دؤوب على الجوهر: فتحت قشرة السطح يكمن مغزى البذرة.
البدايات الحقيقية ليوسف كانت مع الأحصنة وأشباهها: الأحصنة الوحوش (كان يسميها: الأحصنة المضادة) ومنذ تجاربه الأولى على هذه الكائنات، النبيلة منها والمتوحشة على حد سواء (لعله كان يفكر في الأحصنة ـ الناس!) استطاع يوسف ـ واضعا الكائن في مواجهة نقيضه ـ ان يبرز أقصى ما يمكن لفنان ان يبرزه من طاقات الشر لدي هذه الكائنات الخنزيرية (الأصح ان نقول: أولئك الرجال الخنزيريين) الذين، بوقارهم وجلافتهم وأنيابهم وربطات أعناقهم ودكنة بياض أحداقهم المشحونة بطاقة الموت، يتحولون الى خليط من بغال وخنازير وآكلات لحوم لها هيئة بشر، بشر حقيقيين ومألوفين، مدرعين بقوة التسلط وشهوة الافتراس وهيبة القبح.
لم يتوقف يوسف عبدلكي يوما واحدا عن العمل على صياغة حياته، حتي جاءت فترة سجنه الممتدة بين عامي 1978 ـ 1980، فكان لا بد من التوقف عن الإنتاج بصورة شبه كلية. انقطع الفنان عن العمل وتفرغ للأحلام. كل ما أنجزه خلال هذين العامين بعض الرسوم الورقية، والملونات الصغيرة إضافة الى منحوتات لـ حمائم ورؤوس أحصنة بالغة الرهافة والصغر كان يعملها من العجين ـ بقايا خبز السجناء.
سنتان وهو يحلم
سنتان وهو يحيك تعاويذ حريته ـ تعاويذ الأمل !
في هذه الفترة التأديبية، حسبما أظن، ظهرت علامات المخاض الأولى لولادة يوسف عبدلكي الثاني: نوبة عطش الى نقض ما تحقق، وأيضا عطش جديد الى محاولة ملامسة السقف. العطش الحقيقي يقود دائما الى مغامرات أخرى وأخرى: إنها شهوة البحث عن الينبوع.
وفي هذه المرحلة تجلت الفوارق الجوهرية لا في مضامين الرسالات بل في اختزالاتها، ودقة رموزها، وتواضع أدوات قولها.
الانتقال لم يكن انقلابا في المغازي بقدر ما كان تبدلا في اللغة، والعلامات، ومفاتيح الأبواب. إنها الفوارق نفسها بين ما يفعله المؤرخ أو المراسل الميداني، وبين ما يمكن ان يفعله شاهد المذبحة الواقف على التل. هو تماما الفارق بين المجلدات التوثيقية المعبأة بالتفاصيل ـ التأريخات، وبين الرسائل المرمزة، المختزلة، المتقشفة، وأيضا:
المشحونة بصرخات الدم.
رقت اللهجة، وخفتت جلبة الصوت، وتقلصت العناصر والتفصيلات: أمام المذبحة ليس من الضروري ان يكثر الشاعر ـ مؤرخ العذاب ـ من الكلام.
وفي هذه الآونة من احتدام المذبحة واحتدام أحلام شهودها، وضحاياها، جاء يوسف عبدلكي الشاعر، يوسف عبدلكي الذي سيكون بوسعه ـ دونما أي ادعاء ـ ان يحول صرخة المعاناة الى قيمة جمال، ويحول مغزى الجمال الى غصة، لكن، أيضا: دونما أي تنازل عما هو جوهري في أساس نص الرسالة.
القدس العربي
JULY 19, 2013