سوريا: الكائن المذعور! ـ أحمد عمر
وصفت مرة في نص أدبي نفسي الخاطئة المذنبة، بالكائن المذعور، فانبرى صديق أذهبت الحروف القاسية والكتب الصفراء أسنانه وقال: هذا الوصف مسروق، وهو مسجل في دائرة الأحوال غير العقارية باسم محمد الماغوط. فأقسمت له برب الكعبة والصخرة المشرفة وتمثال بوذا أن الوصف مبتكر و ايزو و” من راسي”، وأنه “غرار”–تعبير شائع لهادي العلوي- سوري ووقع للحافر على الحافر، وإذا كان العربي قد أرسل هذا المثل في العصر الجاهلي الذهبي، عصر ملكة الجمال والقدّ والاعتدال، سيدة شاشة الكلمة الأولى عنيزة، صاحبة امرئ القيس ولدتها مي التي كانت تقيم بحارة الرقمتين، فإنّ النظام السوري المقاوم والممانع، حوّل الشعب كله، بعد الاعتذار منك بوعزيزي القارئ، إلى حوافر. الكائنات باتوا قسمين: كائن مذعور، وكائن أزعر!
وأستطيع أن أصف هذا الذعر بالنموذجي والنمطي و” التايبكل” ويمكن أن أسعد القارئ الكريم، في بلاد ما بين ” الماءين” المغليين بنيران الاستبداد والثورات بملامح من هذا الذعر.
عبرت البحار السبعة والوعار، والوهاد والقفار، حتى بلغت بلاد الترك، وحرصي على جواز السفر يفوق حرصي على مؤق عيني، فهو يمكن أن يسمى: تصريح إخلاء سبيل، شهادة تحرر وتحرير، شهادة تقرير مصير… رمى الموظف التركي الجواز بعدما ختمه وتملاني وقارنني بالصورة والحمد لله أنني كنت أشبهها، فلا شيء في سوريا يشبه نفسه (الظاهر أنه يحدث خلط في تسليم جوازات السفر) وقذفها من فوق الرؤوس فطار الجواز ورفرف بأجنحته وحلق وحوّم ثم سقط على الأرض جريحاً مضرجاً بالغبار!!.. الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، أصيب الجواز ببعض الكدمات ولا يحتاج سوى إلى رعاية نفسية!
حتى الآن لم أصل بالقارئ إلى تظهير معنى الخوف (كما يفعل المصور بإغراق الصور السلبية في الحامض). في المطار شعرت بعزة لم أشعر بها من قبل، وأريد أن أسرّ للقارئ، على أن يبقى السر بيننا في بير نفط أو بير سلم، أنني قبّلت الأرض التركية! (ملاحظة: تقبيل الأرض، هو تعبير أدبي إسلامي، غير علماني، عن السجود بين يدي الملك تمييزاً له عن السجود لله). أنا غير خائف وغير مذعور في المطار، مع أني لم أرتكب جرماً سوى جريمة “نون والقلم وما يسطرون”. تخلصت من إبرة في حقيبتي، في بهو المطار (لزوم ما يلزم فهناك زرّ “خريفي” في جلابيتي) خشية أن أتهم بالإرهاب، وعبرت عيون الأشعة السينية بسلام واقتدار، أيضاً، ما حدث، هو أن موظف أمن المطار، في الباب الأخير، مؤدياً واجبه، أمرني بأن أكشف رأسي المغطاة بالقبعة ففعلت!
يبدو أنّ الإرهابيين يستغلون كل شيء حتى القبعة؟
في سفرة من سفراتي الكثيرة حول العالم، وهي سفرة واحدة، يتيمة ، لا غير، طارئة، وناشزة، أخذني موظف أمن المطار السوري، ولن أروي الحادثة كلها، إلى غرفة وأمرني بأن أتعرّى، مع أنني مررت على عيون زرقاء اليمامة السينية!
شلحت.. فأمرني أن أخلع ورقة التوت!
ففعلت، يعني تعريت، فظهر عاري كله، بل وأديت رقصة من ثلاث حركات، غير خائف على “كرامتي”، كلنا فداء للوطن والسيد الرئيس. قلت وأنا أستر عاري!
في اليابان – وهذه قفزة كبيرة في المكان لكننا لا نزال في القضية التي أنا بصدد إقناع القارئ بروعتها- اقتربت مني شابة تطلب مني توقيعاً على عريضة، فتلفتّ حولي، الشابة يبدو من ملامحها أنها من عرق فرعي من العرق الأصفر، وهي من المنبوذين، وتحاول بطريق النضال المدني القيام بخدمة طبقة من الناس وإيقاظ ضمائر البرلمان. وأريد أن أسرّ للقارئ أيضاً، سراً، أرجو أن يبقى بيننا، هو أنني في مجال فعل الخير، فدائي واستشهادي، وقد اعتقلت مرة لأني تبرعت لفقير بمائة ليرة، وتلك حكاية أخرى، قد أحكيها لاحقاً، لكني اعتذرت من الشابة، خوفاَ من عيون المخابرات السورية في اليابان. ولو كنت بشجاعة المفتش “..” في رواية البؤساء لانتحرت مثله مرتين، بالنار والماء.
ستسأل، بوعزيزي القارئ، أين الذعر النمطي؟ أنا لا أتذكر، هل أمرني الموظف التركي أم أنه أشار إليّ، أم “ترجاني” أم طلب مني بلطف؟ الجرح: هو أنني لبّيت الأمر، من غير تأخير زمني، كما لو أني جندي غر، أو سجين سياسي في تدمر في سنته السادسة عشرة!
ذهبت إلى مكتب الويسترن يونيون، في اسطنبول ، أستحصل مبلغاً من المال، فطال مكوثي، مدة تزيد عن نصف الساعة، ففكرت في أمر قد يفاجئك عزيزي القارئ: فكرت بالهرب من البنك!!
هذا النص الصغير قد يفسر لمّ قام بالثورة السورية أطفال لم يبلغوا الحلم!
في المطار الأنيق، بعدما أعدت قبعتي إلى رأسي العارية، معتذراً منها، سحلت حقيبتي (التي كانت تشكو إليّ بعبرة وتحمحم)، غير مبال بشابة جميلة حسناء، كانت ترتدي ثياب البحر في البر، ولو كنت مواطناً من لبنان أو ضفاف الأمازون، أو أذربيجان، لجلست قريباً من البحر الأبيض الأحمر المتوسط. لكني تحولت إلى ركن قصي، و تحولت حسناء البر المتوسط إلى صف من الحسناوات.. من خلال موشور دمعتي..
كنت أبكي.
20/07/2013, المدن