إشكالية الأنا عند السياسيين السوريين ـ عمّار ديّوب
تتمحور السياسة والثقافة والموقف عند السياسيين السوريين حول أنا قائلها. فلا التاريخ يَحضر ولا الوقائع تُرى، ولا برامج القوى السياسية يعتدّ بها؛ هذه عقلية السياسيين السوريين، ولكن لماذا هي كذلك؟
أول شرط لفهم هذه الحالة، يقتضي العودة إلى التاريخ، فمنه تحوز المعرفة موضوعيتَها. نشأ كل هؤلاء من جراء ثقافتين؛ ثقافة السلطة السائدة، حيث يتمثلون ممارساتها وآلية تفكيرها وتحقيرها للآخر، وإعلاءَ شأن الذات، فتصبح مؤلهةً، تعيش فوق التاريخ والناس؛ فهي بداية التاريخ والثقافة والسياسة والفن والأدب، وليس من غيرها بقادر على الفهم. هذا شرط أول، وقد اجتاح كل المثقفين وكل تيارات الفكر والسياسة، فكانت تنتَج شخصيات استبدادية جوفاء في معظمها، فقرها بائن في غياب الإنتاج، وفي حضورها كظاهرة صوتية فقط. معظم مثقفي سورية مطرودون من السلطة، ومن أحزابهم التاريخية، وهو ما عزز من خصائصهم تلك. وبالتالي الثقافة السائدة، هي معين سلوكيات المثقف والسياسي السوري، قبل الثورة وفيها.
الشرط الثاني ينتمي إلى ثقافة المجتمع ذاته، فهي ثقافة قديمة قروسطية، لا تعترف بالآخر إلا لتكفيره وتمتين أواصر الجماعة ذاتها. ثقافة ترتكز على طائفية تفهم المجتمع كطوائف وأديان وزعماء؛ هذا ركن مستقر في بنية العقل، بقي كذلك، لأن المجتمع بقيت وسيلة الإنتاج المركزية فيه الزراعة، حيث العائلية والمناطقية وبالطبع الطائفية، وليس من فكر يتجاوز ذلك نحو المدينة أو الدولة.
تمأسُس الدولة منذ الاستقلال بصفة خاصة، لم يُحدث تجاوزاً لهذه الإشكالية، فتشكلت الأحزاب وفق هذه العقليات، ولم ينفتح مجال التاريخ واسعاً لتعزيز ثقافة المواطنة؛ فقد كانت قبل مرحلة 1963، مرحلة أعيان المدن والملاكين، والصناعيين القادمين من هذه الثقافة القروسطية، فكانوا في أحزابهم (حزب الشعب والكتلة الوطنية) وفي شكل الأنظمة آنذاك ممثلين عنها، وبالتالي لم يُلحظ الشعب أبداً، وظل هامشاً في حياة المثقف أو السياسي، فتعمق فهمه لدوره كما حال رجال الأعيان هؤلاء. وبعد 1963، جاء دور العسكر باسم البعث، وكان مُقاداً من زعماء تاريخيين لا يطالهم الخطأ، ولا يخرجون من التاريخ إلا بالانقلابات، فكانت الانقلابات وأخرجتهم. هذه العقلية تسري على كافة القوى السياسية، الشيوعية أو الإسلامية أو سواها؛ مصدرها الثقافة السائدة في مجتمع متأخر، وحينما أصبح متخلفاً، بفعل الغزو الاستعماري لسوريا، لم يتغير، حيث لم تحدث نقلة في الاقتصاد نحو الثورة الصناعية، بل دُمرَّ الاقتصاد بتخصيصه لحاجات المراكز، فظلَّ المجتمع القديم بثقافته ذاتها، لنصل إلى انفصال كامل بين المشتغلين بالثقافة والسياسة وبين الشعب. مع مرحلة الحركة التصحيحية، أمُعن في تغييب المجتمع، فتمحورت كل الدولة حول شخصية الرئيس، فألصقت به كل صفات النبوة والرسالة، وتُبّع الشعب خلف راعيه. فكانت حالته بين أمرين: إمّا أن يتفجر بثورة مشوهة كما الثمانينيات أو يصمت صمتا مطبقا كما الحال قبل الثمانينيات وبعدها، وفي كل ذلك خاض الساسة والمثقفون معاركهم بشجاعةٍ وبسالة ضد السلطة، بغض النظر عن صواب المعركة ذاتها؛ ولكنها المعارك التي عززت من أدواهم الذاتية، كمقاتلين استثنائيين للسلطة الديكتاتورية، واستغرقوا فيها ولا يزالوا هناك. هنا من العبث أن يسأل هؤلاء، لماذا لم يتحرك الشعب وينال حقوقه؟
هذا سؤال المثقف والسياسي، فالشعب وبغياب إمكانية التحرك وتراكم الأزمات لن يتحرك، وعلى سائل السؤال أن يُوجهه لنفسه، لا أن يتهم فيه الشعب قائلاً: إنه شعب لا يثور، هذه هي خلاصة فهمه للشعب قبل 2011. وبالتالي هو فقط من يثور، وهو المختلف المميز، وهو من يحاول مجاهرة السلطة ونقدها، بل ومحاولة تغييرها بصورة ما.
ورغم أن المثقف والسياسي السوري، غالباً ومنذ عام 2000 وإلى عام 2011، لم يكن سوى مثقف إصلاحي، أي يطرح قضية الإصلاح السياسي كشرط لبقية الإصلاحات؛ بينما النظام كان يتكلم عن إصلاح اقتصادي وإداري، فإن ذلك المثقف بقي يضع نفسه بمكان مختلف عن الشعب، ولم يفهم سر صمته طويلاً، إلى أن تفجرت ثورته.
هذا المثقف ليس تاريخياً، ولا يعنيه التاريخ كقوانين موضوعية، ويأخذ منه -إن تنازل ورآه- بطريقة اختيارية إرادوية، ما يناسب مزاجه ومواقفه وربما مصالحه.
في سوريا، وبمجرد اندلاع الثورة، وباعتبار الشعب مغيباً، ولا يعرف المثقف والسياسي أحواله سوى من عموميات، تم تجاهل الثورة ذاتها وكيفية اندلاعها وطرق تطويرها إلى ثورة شعبية وسياسية نحو أهداف ترتقي بالشعب، في حياته المعيشية وفي النظام السياسي وفي السيادة الوطنية؛ كل ذلك تمّ تجاهله، فلا رابط بين الاقتصاد والسياسة، وهذه نتيجة لغياب التاريخ؛ فانزاح الفكر للتركيز على الخارج، فالخارج هو القادر على إسقاط النظام الشمولي، وهذه واحدة من بديهيات فكر ليبرالي طالما سمعناه يتحدث قبل الثورة عن الطريقة الوحيدة لإسقاط الديكتاتوريات.
هذا ما تمّ فانقسمت المعارضة ومعها المثقفون، بين من يوالي الأميركان ومن يوالي الروس، وكله يتوسل الثورة للوصول إلى غايته.
هذا هو مثقفنا وسياسينا السوري؛ الشعب معني بتخليصه من نرجسيته تلك، من أناه تلك. الثورة عملية تاريخية من أجل تغيير شامل؛ هذا مبدؤها، وربما هذا حالها الراهن؛ أقول ربما، فقد دخلتها مشكلات كبيرة، عمقت من الإشكالية المقروءة في هذا المقال بدلاً من تفكيكها. ولكن التاريخ ومهما تلون وتعقّد، سيعيد تشكيل نفسه وفق تلك العملية، وربما يبدل من عقلية المثقف والسياسي. وهذا لن يتحقق جدياً، إلا في شروط جديدة؛ تبدأ بإحداث تغيير في نمط الاقتصاد السائد، حينها فقط يمكن تفكيك هذه الإشكالية، وربما تتحول إلى ظاهرة جزئية تخص فئات مجتمعية بعينها، وتكون في الإطار الفني والأدبي بالعموم؛ فممارسوه لهم عقلية متمايزة.
العرب [نُشر في 25/07/2013، العدد: 9276، ص(8)]