الفرد والجماعة في ثقافتنا العربية ـ أنور بدر
منذ صدر القرار بمنع دخول السوريين إلى مصر أحسست بخيبة أمل كبيرة، فمصر كانت النافذة الأفضل لكل اللاجئين السوريين، وكان الشعب المصري الأكثر تفهما بين دول الجوار لمأساة السوريين الهاربين من بطش نظام الأسد.
ومع إدراكي بأن القيادة السياسية والأمنية في مصر تملك الكثير من الأدلة على تورط سوريين في أعمال شغب أعقبت إقالة الرئيس مرسي وتشكيل حكومة انتقالية، بعضهم لأسباب أيديولوجية، وبعض آخر أرسلهم نظام الأسد للتخريب على مصر وعلى وضع السوريين فيها، وربما بعض ثالث منهم إضطرتهم الحاجة لبيع أنفسهم في مزادات الثورة والثورة المضادة، لكن هؤلاء جميعهم قلة بين السوريين الذين يعيشون في مصر، والذين يحبون مصر، ويخافون عليها، وما زالوا يتغنون بأيام الاقليم الجنوبي لسنوات الوحدة التي جمعت أول بلدين عربيين في التاريخ المعاصر.
كل هذا ندركه جيدا ونتفهم دوافعه أيضاً، بل ندرك أكثر من ذلك أن كل الأحزاب اليسارية والقومية في مصر وفي باقي البلدان العربية مازالت مؤيدة لنظام بشار الأسد ضد الثورة، ومؤيدة لجرائمه ضد الشعب السوري أيضاً، مما شجع في لحظة الأزمة على ولادة حس شعبي كاره للسوريين عموماً وللاجئين منهم في مصر بشكل خاص، تقمصه بعض الاعلاميين في مصر وجرفتهم موجة الغضب الآني، حتى تحولوا في لحظة تالية إلى أحد محركات هذه الموجة التي جيشت الشعور الشعبي في مصر، وحرضت بحق وبدون حق ضدّ السوريين اللاجئين فيها، متوسلة لغة بذيئة في بعض الأحيان، وتفاصيل وخطابات وتنميطات مفبركة في أحيان أخرى، أساءت بالعموم لعروبة المصريين وثقافتهم، بمقدار إساءتها للسوريين وكرامتهم. حتى بات يصعب التمييز بين السبب والنتيجة في التحريض الإعلامي والتجييش الشعبي الذي سمم العلاقة بين الشعبين.
وقد يكون من الطبيعي أن نتذكر بهذه المناسبة الفتنة التي نشبت بين مصر والجزائر بسبب لعبة كرة قدم، أساءت للعلاقة بين البلدين كما أساءت للروح الودية بين الشعبين، وأشارت لانعدام الروح الرياضية عند كلا الفريقين، وربما الدوافع ذاتها ظهرت بين مشجعي ناديين في مصر، فراح ضحيتها عشرات القتلى ومئات الاصابات ايضاً وكلهم من المصريين هذه المرة.
في تحليل هذه السلوكيات والمظاهر بشكل عام، يتبدى النزوع العاطفي، والاستعداد المسبق لتقبل التحريض والتفاعل معه دون تمحيص، كما يتبدى أيضا في استعداد لتعميم المشاعر والانفعالات من المستوى الفردي إلى المستوى الجمعي أيضاً، وكلها تغلب العاطفة على العقل، واللغة على المنطق، ولها جذور في ثقافتنا العربية بكل أسف، جذور تمتد لمئات السنين، حيث طغى مفهوم القبيلة والشعب على مفهوم الفرد والإنسان، ويقول في هذا دريد ابن الصمة ‘وما أنا إلا من غُزَيَّةَ إن غوت غويت وإن ترشد غُزَيَّةُ أرشد’.
فيما نلاحظ أن الثورة الفرنسية طرحت شعارها الشهير ‘حرية، أخوة، مساواة’ والذي تطور لاحقا إلى الصيغة الأشهر مع الثورة الأمريكية ‘مواطن، فرد، حر، كريم، متساو’ وكانت بذلك تؤسس لوعي المواطنة الذي يقوم على الفرد أولاً ثم الحرية والكرامة والمساواة، ومنها اشتقت لاحقا حقوق الانسان في الثقافة الغربية، بينما أسست الثقافة العربية لمفاهيم نقيضة، الأمة والشعب والجماعة أولاً، عقل جمعي يلغي الأفراد، وبالتالي تُصبح الحرية والكرامة للأمة أو الجماعة، وتغيب حقوق الأفراد وحقوق الانسان.
ضمن هذا التعميم الذي لا يعترف بالفرد والانسان أصلاً، إلا بصفته جزءاً من القطيع، لم يكن مفاجئاً أن كل الأيديولوجيات التي سادت في مجتمعاتنا العربية من الإسلامية إلى القومية والماركسية وقفت على النقيض من مفاهيم حقوق الانسان وحريته وكرامته غير المعترف بهما، لصالح شعارات: ‘أمة عربية واحدة ..ذات رسالة خالدة’ وصولاً إلى ‘الطبقة العاملة وحقوق البروليتاريا’. وقلما عرفت ثقافتنا العربية النموذج الليبرالي الحقيقي، فثقافتنا العربية تؤكد على الخطاب الشمولي الذي يتجاهل الأفراد وحقوقهم ، حيث ألغت أغلب الأنظمة العربية مفهوم التنوع المجتمعي فيها، لصالح أيديولوجيا وشعارات شمولية، تركت المجتمع في كثير من حالات إنهيار هذه الأنظمة وانهيار خطابها الشمولي كما حدث في العراق وكما يُخطط له في سوريا، تحت رحمة انقسامات ما قبل الدولة المدنية، إنقسامات إثنية وطائفية، كانت الدولة القومية قد غيبتها قسراً، دون أن تعالجها أو تستفيد من غنى التكوينات المجتمعية فيها، فأورث انهيار الدولة مجموعة من الانتماءات قبل المدنية، وتم توظيفها في هذا السياق لغايات سياسية وأمنية في كثير من الحالات.
وفي هذا المستوى ظلمت دولة الممانعة السوريين بكل تكويناتهم وانتماءاتهم الصغرى، وها هي دول الجوار تساهم بظلم السوريين ثانية، حين تطلب مصر من اللاجئين السوريين الحصول على تأشيرة دخول إلى أرض الكنانة، مما يُقدم تبريرا للحكومة اللبنانية المهيمن عليها من قطب الممانعة للقياس على النموذج المصري، ومطالبة السوريين بتأشيرات دخول إلى لبنان.
وفي تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش من ‘هيتاي’ على الحدود السورية التركية، بتاريخ 1تموز/ يوليو أنّ ‘حرس الحدود العراقي والأردني والتركي يمنع عشرات الآلاف من الأشخاص الذين يحاولون الفرار من سوريا، حيث قامت تلك الدول بإغلاق العديد من المعابر الحدودية تماماً، أو بالسماح لأعداد محدودة فقط من السوريين بالعبور، مما يترك عشرات الآلاف عالقين في ظروف خطيرة بالمناطق الحدودية السورية المنكوبة بالنزاع′.
ولا أعتقد أن المقاربة في المستوى السياسي والإنساني لما حدث في مصر، كافية لفهم الإشكالية بعيدا عن مقاربة نظرية لهذه الإشكالية، فالدولة الشمولية ألغت حقوق المواطنة لصالح أيديولوجيات ثورية أو رجعية، وكانت بذلك تخرج الواقع من الشعارات، بدل أن تقرأ الشعارات ذلك الواقع، حتى انتهينا في محاصصات طائفية وأقلوية ظلمت المجموعات والأفراد معاً، ونعيش في سوريا نموذجاً ظالماً لهذا الانهيار وتلك المحاصصة، التي يعمل البعث على تأكيدها بكل الوسائل، رغم الشعارات القومية، والتقدمية، ورغم ادعاء الممانعة والتصدي!
يبدو في هذا الاطار أن المجتمع المدني هو الخاسر الأكبر في سوريا، وفي العالم العربي، ومن غير الممكن استعادته بغير الحرية، وأعني هنا الحرية المدنية في العقد الاجتماعي والحقوقي التي يمنحها القانون، حيث يوفر المجتمع المدني للأفراد حرية التعبير وحرية التجمع والتظاهر والعمل والمساواة في القانون، وصولاً إلى الدولة المدنية التي تعترف بحقوق كل مواطنيها بغض النظر عن العرق أو الدين أو الانتماء السياسي، ويكون الفرد الحر الكريم المتساوي فيها أساس المواطنة، وهو اللبنة الصحيحة لبناء وطن جديد في هويته وفي علاقته مع مواطنيه، وطن تبقى فيه الجماعة أو الشعب على مسافة متساوية من كل الأفراد، دون أن تُغرّم بجريرة فرد أو أفراد هنا وهناك، وهذه ليست إشكالية السوريين فقط، بل هي إشكالية في ثقافتنا العربية عموما.
بل ربما نكون في سوريا أقل إنسياقاً وراء تلك المشاعر الجمعية، وبشكل خاص في زمن الثورة التي امتدت لعامين ونصف وما زالت مستمرة، إذ أننا عانينا من تورط بعض الفلسطينيين من الجبهة الشعبية/ القيادة العامة التي تُعرف بجماعة أحمد جبريل في الحرب مع شبيحة النظام ضد الفلسطينيين والسوريين على السواء، دون أن يولد ذلك أي موقف شعبوي أو عاطفي تحريضي ضد الفلسطينيين في سوريا، بالعكس من ذلك، فقد زاد تلاحم الشعبين السوري والفلسطيني في نضالهما ضد نظام الفساد والقمع الذي اضطهدهما سوية، وأعتقد أننا بحاجة إلى هذا الوعي الذي يميّز بين الفرد والأفراد عموما، وبين الشعب كشخصية اعتبارية وثقافية نحتاج إلى تعضيدها وتقوية النوازع الايجابية فيها، لتنعكس على مجموع أفرادها بشكل أفضل.
القدس العربي
JULY 24, 2013