بعد الخيط الأول من وجه القمر ـ عزيز تبسي
يوسف عبدلكي (من مرحلة 2000-2013)
لا عيون تفكك معنى الفلك، مذنباته، نجومه، كواكبه، شهبه ذات الأعمار الطويلة أو القصيرة، ولا حواس صائبة تستدرج شعاع الكوكب الطفولي الأنيق، معبود العشاق والرعاة، بترانيم بهيجة وبنداءات تروض ميثاق الطبيعة. إذاً ينبغي التريث، وانتظار سعال المؤذن الكهل مضخم الصوت، قبل الاستماع لإطلاق بشارته، بصوت صقيل معافى من خدوش الأحماض وارتياب المواقيت.
بعدها تصعد أصواتنا إلى عليائها، ونتبعها ركضاً إلى سطح البيت لمشاهدة اللمعات المتوهجة قبل سماع انفجارات “الطوب” المتكررة، نحن الأولاد المنذورين للإيمان الرائق، وتمتين أواصر العائلة المقدسة، واصطياد فراشات البهجة من فوق تويجات زهورها. ننزل بعدها كقطار معوج إلى أرض البيت، تسبقنا زماميرنا وأبواقنا، نتلاصق ببعضنا لنحصي على مهل غنائمنا الهابطة من العقار السماوي: الحرية المنتزعة من ضيق الوقت على الأهل المشغولين بإعداد الأطعمة وتبادل الدعوات إلى ولائم الإفطار، السهر البهيج إلى ما بعد السحور، اللعب خارج البيت وتثبيت الاكتشافات الكبيرة، كإمكانية لعب كرة القدم في العتمة بنفس حيوية لعبها في النور، وأن “الصيّاح” يدور في الليل كما في النهار، والمذاقات اللذيذة التي تكتسبها الأطعمة المدرجة في لفائف الخبز، حين تؤكل مقبوض عليها بأكف متسخة بالغبار والعرق المالح، تحت الضوء البرتقالي لمصابيح البلدية.
يطلب مني أبي أخيراً الخروج معه إلى السوق، لتوفير بعض الاحتياجات الضرورية للبيت، نعبر الشوارع الضيقة من “بستان القصر” عبر “حديقة القباقيب” إلى ساحة جمال عبد الناصر في “الكلاسة”، نحايث التدفق الشعبي المصطلي بالإضاءات المبهرة، والمستحم بنداءات الباعة المواظبة عن حوائج الصائمين. إلى يميننا فرن “الناصر” يوزع بالمجان، كما كل رمضان، خبزاً سميكاً على العابرين، وبعده فرن آخر يوزع كعك “المعروك” الملتمع وجهه والمزين بحبيبات السمسم وحبة البركة. يعبر أبي بين المزدحمين، ويقف من وقت لآخر ليعيّد من يصادفه من معارفه، وهي فرصة لأرفع رأسي وأرى المصابيح المتدلية كعناقيد عنب، والأعلام الملونة المرفرفة كأوراق الدوالي، وأخيراً يكتفي بالحلويات والسكاكر وبعض الفاكهة، نحملها ونعود إلى البيت، مبقياً حوائج وليمة الإفطار إلى الصباح.
في صباح المدرسة، كان يقف، يفتح فمه على مداه ويخرج لسانه، لا لشيء في منطق اللهو، أو لدعابة ساخرة من كلام مرسل يتبادله التلامذة فيما بينهم في الفسحة الزمنية بين حصتين تعليميتين، بل ليقول: أنا صائم، ولساني الأبيض دليل على ذلك. وكأن الصيام لم يعد من واجباته الدينية، بل الجهد المثابر على إظهاره، ويتبعه بتعقب لجوج لامتحان غير الصائمين، من الذين لا تظهر عليهم علامات الصيام وسماته، ليبقى أولئك موضع شكوكه وارتيابه على دوام شهر الصيام. ولا يتأخر هتافه الصاخب، حين يقبض على من يتهيأ له أنه من المفطرين، من الذين يقتربون من صنابير المياه لغسيل وجوههم وإزالة آثار الحر عن رؤوسهم “مفطر يا سم.. يا دواق الدم/دمك دم الخنزير/ بيعلقوك بالجنزير/ والجنزير مالو حلقة/ بيعلقوك بالفلقة”… وكنا نلتفت إليه بهلع المتفاجئ، صادمين رؤوسنا برأس الصنبور النحاسي، نشفق لحاله، وهو يتقمص دور الشرطي الحارس للنواميس. لم يدرك زميلنا، أنه يتمنى لنا “تجرع السم” نحن الجالسين معه على مقعد الصف، وكنا خارج هذا الشهر، نقتسم لفائف الأطعمة التي تعدها لنا أمهاتنا، ونتبادل الدفاتر والكتب وأقلام الحبر الجاف، ويستعجل علينا العقوبة وتطبيقها الدنيوي، غير متمهل وصولنا معاً إلى يوم الدينونة، لننتظر بترقب وخشوع سرد الملائكة لمدونات الحقيقة، ووضعها أمام ميزان الحق.
أيامها كان، رغم سفاهته وتعدياته الدائمة على حرياتنا، فرداً هزيلاً بإمكاناته وقدراته، يكفي من لا يعجبه كلامه الاستدارة نحو فسحة متاحة، لممكنات التجول السمح في الباحة، وإظهار الاختلاف اللبق، فضلاً عن مواجهته بسخرية علنية من سلوكه، والاحتفاظ بخيار مؤجل وغير مستحب من عموم التلامذة، بإبلاغ الإدارة بإزعاجاته، على عكس ما يفعل هو تماماً، حين كان يشي بنا للأساتذة المأخوذين بآثار الصيام، محولاً أوهامه إلى حقائق يقينية. وكانوا يصغون إلى كلامه، فاركين جباههم بظاهر راحاتهم، ليحولوا رؤوسهم بعدها، دون أن ينطقوا بحرف، نحو السبورة النظيفة، مدونين بطباشير بيضاء هش التاريخ وعنوان الدرس.
ساهمت السنوات المتعاقبات بإظهار أن شكليات الصيام قد غدت أقوى من معنى الصيام ذاته، وثبتتها كعادة ثقيلة، تفرغها كل يوم من مثاقيل الحمولة التقشفية، كأنها سعي لإكراه الجماعة بالواجب الديني، والعمل على الوعظ التأديبي والتذكير المستمر بالقناعات الموروثة، أكثر منه اعتصام بأسبابه العميقة، بكونه تعبيرا عن نزعة إرادية تتقدم مشفوعة بحريتها الفردية لتعارك وتقهر إغراءات الماديات اليومية، والثبات في الجسد والروح النظيفين، أمام العبور السائب لإغراءات الحاجات الجسدية وهي حاجاتها للاستمرار بالحياة. وبكون الصيام فرصة لاختبار الجسد وإظهار تفوقه، وإبراز قدرة القوى الروحية، حين يجري الإصغاء لها، على دحر الحاجات المادية وإطفاء نيران متطلباتها.
وكأن ما يحصل من إفراط في توكيد المؤكد إيذان بخروج الفكرة عن مسارها. وعليه تؤكد كل مصادر المعلومات على تحول رمضان إلى “موسم رمضان”، يبدأ بارتفاع استهلاك المواد الغذائية عوضاَ عن انخفاضها، وارتفاع أسعارها لشدة الطلب وثبات العرض، زيادة يرافقها الإنفاق الاستهلاكي البطِر، ليجري تخصيص ميزانية مستقلة له باتت تعرف بـ”ميزانية رمضان”.
تتهيأ وسائل الإعلام قبل رمضان، بمسلسلاتها وبرامج حزازيرها ووجبات الأطعمة المتنوعة الفاخرة، وبرامج الوعظ الإرشادي، والطبي… لتقول معاً “عليك الصيام وأترك الباقي علينا”. ومن الشرفات، ومن الهواتف الثابتة والمحمولة، وأمام عتبات البيوت، يجري تبادل الأحاديث عن أطعمة الفطور والسحور وتنوعها، عن أحدث الوسائل في السيطرة على الوقت، وعن الاستبدال المنهجي للساعات البيولوجية، ويبقى الصيام المتكور على ذاته العميقة، المنسي في زمن آخر، في منأى عن كل ذلك…
من يذكر اليوم الأصول المؤسسة للتصوف العثماني، تأملاته، أشعاره، موسيقاه، وإبداعاته في الرقصة المولوية، وانتقالها التدرجي بإحترافيتها الراهنة، لتتحول إلى ثبت في مدونات البرامج السياحية، هي عينها ما كانت قبل قرون، تعبير عن توق البشر للوصول إلى الفناء في الكائنات العالية، أو الدوران حولها كأقمار من فلذات الشوق. رمضان إخماد الجسد وإعادة إحيائه، تبادل أطباق التكافل الاجتماعي، أمنيات الرحمة وتعميم الخير، تمتين العلاقة المباشرة بين البشر وسمائهم…، كأنه الزمن المتناوب ترتج مغاليقه على رمضان، وتفتحه على رمضان جديد مختلف.
ونحن حيث نحن، نهرع بعد نداء المؤذن الكهل إلى سطح العمارة العالي، لنترقب وميض الـ”طوب”، ونتمنى أن لا يخطئ وجهته وموقع انفجاره، وننزل بخطى ثقيلة إلى البيت، لنتأكد من امتلاء الأوعية بالماء والثلاجة ببعض الخبز.
24/7/2013
السفير العربي