الرجل الذي انتهى ـ وائل السوّاح
أكثر ما يجيده الرئيس بشار الأسد هو خسارة الأصدقاء. في عام 2000، عندما توفي حافظ الأسد، تقاطر زعماء العالم على دمشق لتعزيته بوفاة والده، حين لم يكن الشاب يحتل أي منصب رسمي، باستثناء القرار الكاريكاتوري الذي وقعه عبد الحليم خدام، نائب رئيس الجمهورية آنذاك، بترقية بشار من رتبة عقيد إلى رتبة فريق وتسميته قائداً عاماً للجيش والقوات المسلحة. ومن بين هؤلاء الزعماء، كان الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، الذي أخذ بيد بشار وأدخله إلى عالم العلاقات الدولية من البوابة الأوروبية. كانت مكافأة شيراك إصرار بشار على التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود متحدياً رغبة معظم اللبنانيين ورجاء معظم قادة العالم، وجاء بعد ذلك اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ليدفع ببشار إلى حال من العزلة الخانقة.
ودفع بشار ومن ورائه طهران إلى الحرب البليدة عام 2006 بين حزب الله وإسرائيل، التي أودت بحياة ألف لبناني ودمرت البنية التحتية للبنان وقضت على موسم السياحة لأعوام قادمة. وفي نفس السنة وصف بشار الزعماء العرب بالعبارة الفذّة “أنصاف الرجال”، فكانت النتيجة أضيّق الخناق من حوله لمدة عامين.
في عام 2008، لعب خليفة الرئيس شيراك، نيكولا ساركوزي، دورا مماثلا في إخراج بشار من عزلته وإعادته إلى المجموعة الدولية من جديد. وتحركت العلاقات السورية-الأوروبية من جديد، وجدد الاتحاد الأوروبي عرضه توقيع اتفاق الشراكة مع سوريا، فكانت مكافأته إسقاط حكومة الشيخ سعد الحريري، رغم الرجاء الحار الذي أبداه قادة الدول الغربية والعربية، ورغم الزيارة الاستثنائية التي قام بها الرئيس التركي إردوغان وأمير قطر الشيخ حمد إلى دمشق وبيروت للغاية ذاتها.
في عام 2011، كان بوسع بشار الأسد أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه لو أنه أصغى لصوت العقل وأصوات السوريين الهادرة التي خرجت تطالب بالحرية والكرامة والعيش الكريم. ولو أن الرجل، بدلا من خطابه المأساوي-الهزلي الذي ألقاه يوم 30 آذار 2011، قام بزيارة لمحافظة درعا، وعاقب ابن خالته، الجزار الذي عذّب الأطفال وأهان آباءهم، وعزَّى أهالي الشهداء الذين سقطوا في الأسبوع الأول من الانتفاضة، ومن ثم ألغى المادة السادسة، ووعد بانتخابات حرة في 2014، لكان من شأن اسمه أن يذكر كواحد من قلة في هذه المنطقة من العالم الذين آثروا مصلحة بلدهم ومواطنهم على مصلحتهم الشخصية الضيقة.
واليوم، يقف بشار الأسد وحيدا. لا، ليس وحيدا تماما. فثمة إلى جواره دكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون الذي استقبل قبل أيام وفدا من حزب البعث برئاسة عبد الله الأحمر، الذي اكتشفنا أنه لا يزال حيا. وأكد كيم “تضامن بلاده المطلق مع سوريا في مواجهة الامبريالية” وقال إن الولايات المتحدة وإسرائيل “وعملاءهما لن يتمكنوا أبدا من هزيمة سوريا وثنيها عن مواقفها الرائدة،” مهددا أن “الاستمرار بالعدوان على سوريا سيجرَ المنطقة إلى نزاع وخيم العواقب يهدد السلام والأمن الدوليين”.
وإلى جوار الأسد يقف أيضا الدكتاتور الكوبي راؤول كاسترو، الذي أوحى إلى سفيره في الأمم المتحدة أن يدين “استخدام مصطلح حماية المدنيين واستغلاله كذريعة للتدخل الأجنبي إما مباشرة أو من خلال دعم المجموعات الإرهابية والمرتزقة التي تحارب في سوريا،” معرباً عن قلقه من استمرار بعض الدول في دعوتها إلى “تغيير النظام” في سوريا، ما يؤدي إلى استمرر العنف فيها.
وإلى جانبه يقف أيضا الفقيه الإيراني علي خامنئي الذي يغرق سوريا بحرسه الثوري ودولاراته الموسومة بعبارات طائفية، والرئيس الروسي الذي يتبادل مع رئيس وزرائه منصبي الرئيس ورئيس الحكومة، في عملية تبدو أشبه بلعب الأولاد، منها بحكم الشعب الذي أنتج يوما بوشكين وتولستوي وتشايكوفسكي، ورئيس الوزراء العراقي الذي كان قبل أشهر من الثورة السورية قد اتهم الأسد بأنه وراء التفجيرات المأساوية التي هزَّت العراق في 2010، وحسن نصر الله الذي يحتكر قرار الشيعة اللبنانيين بقوة السلاح، ويرسل القمصان السود إلى بيروت كلما سارت العلمية السياسية في اتجاه لا يرضيه، ثم يرسلهم ليصعدوا مآذن المساجد في سوريا صارخين: لبيك يا زينب!
ويقف إلى جانب الأسد أيضا مهرجو اليسار العربي وبعض التيارات القومية البائسة الذين دعموا في السابق دكتاتور العراق صدام حسين وهتفوا بحياته في محافلهم القومية واليسارية البائسة، وهم اليوم يدعمون الأسد الذي قتل حتى الآن من شعبه أكثر من مائة ألف رجل وامرأة وطفل، واعتقل وعذب وجرح أضعاف هذا العدد، وهجَّر ثلث شعبه في داخل سوريا وخارجها ودفع بهم إلى توسل لقمة الخبز وحبة الدواء.
وإذن، ليس الرجل وحيدا تماما. يدعمه كل طغاة العالم الحاليين وثورييه السابقين من يساريين وقوميين، ويدعمه الممانعون والمقاومون وأعداء الإمبريالية وإسرائيل. وأفضل من ذلك كله، يدعمه ايضا المجاهدون الإسلاميون من جبهة النصرة ودولة الشام والعراق، الذين يرتكبون المجازر ويقتلون من المدنيين أكثر مما يقتلون من الشبيحة ومقاتلي النظام.
ومع ذلك كله، يبقى سؤال ملحّ: ما الذي سيفعله الرجل بكل ذلك؟ ولنفرض أنه انتصر في معركته على شعبه، وخرج من قتال النساء والأطفال والرجال مكللا بأكاليل الغار وتيجان أوراق العنب، فكيف سيحكم هؤلاء الناس؟ من أين سيراكم ثروات العائلة الخيالية وقد خرّب شوارع البلاد ومصانعها وشبكات الكهرباء والماء والسدود والجسور؟ ومن أين سيأتي باليد العاملة ومعظم من قتلهم من الشباب؟ ومن أين سيأتي بالخبرات الشابة وقد هجَّرها جميعها إلى الخليج وأوروبا والولايات المتحدة ومصر وتركيا ولبنان؟ كيف سيحضر اجتماعات القمة العربية القادمة، وكيف سيرسل أولاده لقضاء العطلة المدرسيةفي وطنهم الثاني: بريطانيا؟ كيف سيصافح الأمين العام للأمم المتحدة، وكيف سيحصل على تأشيرة لزيارة أوروبا أو اليابان أو الولايات المتحدة للعلاج إذا أصيب بسرطان أو جلطة دماغية أو إذا صحا ضميره فجأة فأصيب باكتئاب شديد؟
أحيانا يمكن للمرء أن يشعر بالشفقة على هذا الرجل، فهو إن خسر معركته ضد شعبه انتهى، وإذا كسبها انتهى، وفي الحالتين لن يفيده حلفاؤه وأصدقاؤه وشياطينه بأكثر من إسعافه بطلقة الرحمة.
الاحد 28/07/2013, المدن