الصعود السياسي على أجساد السوريات ـ ليلى العودات
كانت أجساد النساء من أقدم الأراضي التي خاض الرجال معاركهم السياسية عليها. من ممالك بُنيت على الزيجات القسرية إلى نساء مُنحن كعطايا أو ديات أو قرابين، إلى أنظمة سياسية حجّبت النساء قسراً أو خلعت حجابهن قسراً، إلى أحزاب تدعي التقدم فتستخدم النساء لتجمل ممارساتها الأيديولوجية الرجعية.
أما في سورية، فمن نافل القول إن للنساء دوراً أساسياً في ثورتها. فعلى عكس عادة المجتمع السوري، لم تبقِ الثورة أياً من أركانها أو مظاهرها حكراً على الرجال، سواءً حراكها السلمي من تظاهر وإغاثة وإعلام وإسعاف، أو المسلح من كتائب مقاتلة. حتى الميليشات الرديفة لـ «الجيش العربي السوري» التي شكلها بشار الأسد لم تخلُ من فصائل نسائية. ومن نافل القول أيضاً إن المرأة السورية دفعت ثمن النزاع كما دفعه الرجال، بعدما نالت حصتها من العنف والقتل والاعتقال والتعذيب والإفقار والتشريد واللجوء والنزوح.
وإلى جانب هذا الدور الواضح والثمن الصريح، يأتي دورٌ وثمنٌ موازيان مستتران، سيبقيان حكراً على النساء. وسأجرؤ على القول إن طريقة السوريين في إدراك هذا الدور والثمن والتعامل معه ستحدد شكل سورية ما بعد الأسد. وسأحاول هنا أن أبرر جملتي الإشكالية ويقينها المستفز.
تدفع النـــساء ثمناً يفوق الذكور عندما يزداد الفقر. إذ إن ممتلكــــات الأسرة ومدخراتها تقع في الغالبية العظـــمى تحــــت ملكيــــة الرجــــل وإدارته، ما يجعل المرأة أكثر عرضة للتهجير وأكثر قربــــاً مـــن الجوع. كما أثبتت دراسة عن تأثير النزاعات المسلحة في الصحة أن المرأة، وبخاصة الأم، هي أول من تقل حصتــــه الغذائــــية في الأزمات، إذ تترك طعامها للأطفال، تليها البنـــــات اللاتي قد يخترن أو يُجبرن على التخلي عن طعامهن للإخوة الذكور المعيلين أو المقاتلين، اعتقاداً بأن الاستثمار الغــــذائي فيهــــم أكثر جدوى. كما يؤدي ازدياد العنف إلى خسارة مكاسب المرأة الاجتماعية التي استغرقت أجيالاً لتحققها حيث تبقـــــى نسبة الانقطاع النهائي عن الدراسة أعــــلى عنــــد النساء من الذكور في مناطق النزاعات المسلحة. كذلك يؤدي استخدام العــــنف الجنســـي سلاحاً في الحرب إلى خسارة المرأة حريتها في التنــــقل والعــــمل والـلــبــــاس. ويبقى التحدي الأصعب فقدان الدخل، عند تواتر غياب الذكور الذاهبين إلى القتال أو القتلى أو المختفين قسراً ما يضيف إلى مسؤوليات المرأة التقليدية، مسؤولية إعالة أسرتها وأحياناً أطفال أسر أخرى خسرت الأبوين والمعيل.
كما يؤثر انعدام سيادة القانون سلباً في النساء في شكل خـــاص لأسبــــاب عــــدة. أولــها، أن المجتمع الذي يغيب فيه القانون تصبح فيــــه الكلـــمة الفصل للسلاح والقوة الفيزيائية التي لا تملكها المرأة. وثانيها، أن انهيار المؤسسات المطبِّقة للقانون يدفع الأفراد إلى خلــــق وسائل بديلة للحصول على الحقوق (كالثأر والبلــــطـــجة والتهديد بالعنف) وهي وسائل غير متاحة للنساء ولا يوجــــد من يحميهن من أثرها. وأخيراً، فإن نسبة العنف الجنسي والجســدي ضد النساء داخل المنزل وخارجه، تزداد في شكل واضح ومضطرد في المجتمعات التي تحتوي سلاحاً فردياً غير مراقب.
إضافة إلى الثمن الإضافي الذي تدفـــــعه النساء، فإن الــــدور المستتر الجديد- القديم الذي تلعبـــه في سورية هــــو استمرار لدور مُهيـــن وظفـــها لـــه النــــظام «البعثي»، وساهمت فيه الحركات النسوية العربية عندما تعاملت مع الطغاة بمنهج براغماتي، فصمتت عن ترشيح النظام الحاكم للنساء إلى برلمانات من الدمى فقط، ليدعي التحرر ويغطي عملية تشريعية معيبة، وخسرت حريتها عندما قبلت بأن تكون أداة للطاغية في التعتيم على قمعه المستمر.
تعاد هذه الخطيئة مرة أخرى، عندما تستخدم المرأة كذريعة لـ «النبل» من جهة وذريعة لتجريم الآخر من جهة ثانية، حيث يتبادل النظام والمعارضة أدوار المعتدي والمدافع في معادلة تكون المرأة ضحيتها دوماً. النظام يتهم الفصائل المقاتلة بـ «الإرهاب والتطرف الديني» ويكون الاتهام الأول هو تحجيب النساء، فيما تتهم المعارضة النظام بـ «العنف وانعدام الأخلاق»، والدليل هو اغتصاب النساء.
قد تكون هذه المظاهر حقيقية، لكنها بالتأكيد مقتطَعَة من السياق ومطروحة لأسباب لا تتضمن احترام من يطرحها للنساء ولا خوفه على حقوقهن. فبينما يتهم النظام ومؤيدوه جميع المعارضين بـ «اضطهاد» المرأة، ينسى تماماً أن يخبرنا كيف يعبر هو عن احترامها وتمكينها (عدا عدم إجبارها على ارتداء الحجاب) متغاضياً تماماً عن أثر العنف والقتل الذي يمارسه في شكل منهجي سواءً في المناطق الخاضعة لسيطرته أو تلك التي تقع خارجها وتعاني من القصف اليومي والتجويع المستمر. كذلك ينسى بعض الجهات المعارضة – وهي تتهم النظام بـ «الاغتصاب» – أن يحدثنا عن مساعيه لحفظ الأمان الجسدي والاجتماعي للنساء في المناطق المحررة أو إعطاء المرأة حقوقها كافة وتمثيلها في سورية المستقبل. النتيجة هي طرفان لن يكونا متساويين يوماً، لكن خطابيهما تجاه النساء متشابهان في رجعيتهما.
عندما قرر الغرب غزو أفغانستان كانت إحدى الذرائع المخجلة هي تحرير الأفغانيات من اضطهاد «طالبان». ومع أن نساء أفغانستان كنّ فعلاً في حاجة ماسة إلى الحرية، فإن التحرير بالعنف لم يكن فكرة سديدة، والحرية لا تأتي ممن لا يؤمن بإنسانيتنا. بالمجمل كل ادعاء لحماية النساء يتغاضى عن باقي حقوقهن وعن حق الشعب كاملاً في الحياة والحرية، سينتهي إلى مزيد من الاضطهاد للنساء، ولكن هذه المرة اضطهاد مديد لن تخرجنا منه نهضة الحقوق المدنية التي ازدهرت منتصف القرن العشرين، فالركب سائر والتحولات الجذرية لا تأتي دائماً.
يكون بدء الإعمار عندما تنتقل النساء من حجة للقتال إلى أداة البناء وعندما نسقط الذرائع التي وظفن لها ويكون هناك سعي إلى حريتهن وإنسانيتهن لذاتهما، لا لإذلال الآخر الذي ينتهكها (مثلنا تماماً). عندما يصبح وجودهن السياسي على كل الأطراف واقعاً لا منحة وعندما نعود إلى حربنا الأولى لأجل الحرية ضد القمع، أي قمع من أي طرف.
الحياة ـ ٢٨ يوليو ٢٠١٣