العراق بوصفه دولة فاشلة نهلة الشهال
تعبير «الدولة الفاشلة» إشكالي بالتأكيد، فهو يطلِق حكماً كلياً على الدولة المشار إليها، بصرف النظر عن السياق الذي أوصلها إلى ما هي عليه. وهو بهذا المعنى ظالم. وفي النقاش الذي يثيره، تبرز معايير بعضها يَعتبر أن ما يُعتد به هو فقدان السلطة القائمة لاحتكار العنف، بينما يصل بعضها الآخر إلى اعتبار الفساد المستشري معياراً أساسياً، أو كما قيل، حين يكون حكام «رجال دولة في النهار ولصوصاً في الليل».
وربما كان التعريف الأكثر شيوعاً هو ذاك الذي يعتبر الدولة الفاشلة «الدولة الضعيفة، حيث البنى السياسية والاجتماعية انهارت إلى الحد الذي يجعل سيطرة الحكومة قليلة أو معدومة». وفي وصف الظاهرة، يُركَّز على سيرورات من قبيل التفجر الذاتي وليس الانفجار، والتحلل وليس بالضرورة التفكك الخ… ولأن تصنيفات «الدولة الفاشلة» تتداخل مع المعـــياريـــن الإنساني والدولي، يطل الفصل السابع من شرعة مجلس الأمن برأسه، مستخدماً «الفشل» كمبرر لإخضاع هذه أو تلك من الدول له. ويتضح من ذلك كله كم أن الأمر مطاط، إذ يمكن إدراج عدد كبير، أو بالعكس محدود جداً من الدول، بحسب المعايير المتبناة. لذا يبدو النعت أشبه بالشتيمة. وأعطيت الصومال طويلاً كمثال عن الدولة الفاشلة، لكن بعض اللوائح أشارت في وقت من الأوقات الى روسيا!
ولكن، كل تلك المعايير تتقاطع عند العراق. ولا يغيّر من الأمر احتفاله أخيراً بخروجه من سلطة الفصل السابع المشؤوم، علماً أن ذلك ليس نهاية أي مطاف، فالأكيد أن العراق يعيش وضعاً في غاية السوء. ولم يكن ما جرى الأحد الفائت، أي الهجوم العسكري لـ «القاعدة»، الواسع النطاق، والعالي بمستوى التنسيق، على سجني أبو غريب والتاجي، وتهريب أكثر من 800 سجين بينهم قياديون بارزون من ذلك التنظيم، سوى البرهان الأخير، الاستعراضي لو شئتم، على مقدار التردي الذي وصل إليه البلد.
فإن تحمّل الناس انقطاع الكهرباء المتواصل في بلد تصل الحرارة فيه إلى أكثر من 50 درجة مئوية في الصيف، وطاقوا انهيار قطاعات التعليم والصحة وسائر الخدمات، والزبائنية والمحسوبية والمذهبية كطرائق في إدارة الشأن العام، وأنهم، وهم أبناء البلد الفاحش الغِنى بالنفط والغاز (رسمياً ثاني احتياط عالمي)، جائعون… فكيف لهم أن يفسروا وجود عشرات من حواجز التفتيش على كل الطرق الخارجية وفي شوارع العاصمة، «تقرّفهم» عيشهم كل يوم، وتعطل حركتهم، طالما هي عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الأمان لهم؟ أكثر من ألف قتيل، عدا الجرحى، في أيار (مايو) الفائت. هذه مروية تشبه تلك المقاطع من الأساطير التي تصف عوالم سوداً مرعبة.
كان السيد المالكي بنى شرعية سلطته على ادعاء أنه الرجل الذي وفر الأمن للعراق، ولكن سيكون من غير الدقيق اعتباره مسؤولاً عن الحالة السائدة، بل يكاد المرء ان يقول ليته كان! ساعتها يكون الحل يسيراً. وفي المهاترات القائمة بين السياسيين العراقيين، زعماء وكتلاً، يطغى ذلك الصراع على السلطة، لكنه يبقى قاصراً عن الإحاطة بالموقف الخطير، إلى حد أنه، بحجب مسبباته يزوّره. والسؤال الذي سيهمّ باحثين كثراً في المستقبل يتعلق بإمكان المزاوجة بين مقدار هائل من الفساد كذلك القائم في العراق، ودولة «قوية»، قادرة على حمل مسؤولية إعادة بناء بلد خارج للتو من ثلاث حروب كبرى وحصار واحتلال، علاوة على سلطة مستبدة استباحته لعقود. ويلحق بهذا سؤال ثان يتعلق بمدى قدرة أي سلطة تقوم على مفهوم الغلَبة الفئوية (ولو كانت تلك الفئة الأكثرية العددية) على حكم بلد بمقدار تعقيد العراق تكويناً أصلياً، علاوة على ما أضافته مساراته وحوادث تاريخه الراهن من تعقيد.
منذ عشر سنين على الأقل وحتى الآن، جرى الالتفاف على مهمة مركزية، هي الحاجة إلى صوغ تصور وطني عام للعراق. وهذا لا يُنتج من فوق، لا من سياسيين ولا من منظرين أياً كانوا. هو ليس نصاً، بل آلية دؤوبة تسعى الى تحقيق توافق حول الأسس في بلد عرف كل تلك الزلازل. لكن اللحظة لم تتوافر، فقد انتقل العراق من سلطة الاستبداد إلى سلطة الاحتلال الأميركي التى قضت على ما تبقى من مؤسساته (بحل الجيش وتبني نظرية اجتثاث البعث) واستبعاد خبراته الذاتية، وتصرفت وكأن البلد أرض جرداء قاحلة يمكن تطويعها لأي شيء، وظنت أنها تبدأ من هنا بإنشاء مملكتها وفق تصور الإدارة الأميركية آنذاك عن العالم، فخرجت بـ «الشرق الأوسط الجديد»… ولما كانت المجتمعات عموماً أكثر تعقيداً من الاستجابة لمخططات كهذه، يمكن نعتها بالسذاجة لولا مقدار الإجرام والمآسي التي تسببت فيها، راحت سلطة الاحتلال الأميركي تفبرك ما يتيسر لها لترقيع الحال.
وهي تخبطت، ومالت على كل الجوانب، لكنها وبأناقة، منحت بعد ذلك ترتيباتها عنـــواناً نظرياً: «ديموقراطية المكوّنات». وتبـــدو هذه عاجزة بوضوح، وغير مرْضيــــة. لكــــن الأهم أنها تحولت إلى وليــــمة لافتراس البلد، كلٌ بشطارته، فيما يظهر أن وهن العراق المتراكم كبير، وأن تـــبلور قوى يمكنها قلب هذه المعادلة البائسة ما زال جنينياً، على رغم الجهود العنيدة لجماعات أو أشخاص، وعلى رغم الحاجة الملحة.
ها قد وصل المالكي، الرجل الكئيب الذي تلخصت عنده وفيه هذه العملية، إلى نهاية جلية، فخرج يتخبط عقب هجوم «القاعدة» ذاك، ساعياً إلى إعادة النقاش إلى المربع الذي يجيد التحرك فوقه: الحرتقات، وضرب هذا بذاك، واستنفار الحس المذهبي. وليست أفضل منه التعليقات الأميركية، وهي شريكة مباشرة في المأساة. يقول جيمس جيفري الذي كان سفير واشنطن في بغداد عند خروج آخر جندي أميركي من العراق، إن «غياب القوات الأميركية يتسبب في تراجع قدرات القوات العراقية»، مفترضاً أن «الاحتلال هو الحل»، موقفاً الأمر على رأسه. وصاحبنا أعاد مذاك تدوير نفسه كخبير في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، فالسياسيون والديبلوماسيون لا يتعرضون لخطر البطالة، بل يستخدمون خبراتهم الثمينة في توليد مزيد من الآراء والتحليلات والنظريات… الفاشلة.
الأخطر أن كل ذلك يجري فيما المنطقة بأسرها تجتاز مخاضاً مفتوحاً على كل الاحتمالات.
الحياة ـ ٢٨ يوليو ٢٠١٣