هل مِن مساحة ديبلوماسية بين الروليت والدب الروسيَيْـن؟ عمر قدور
كفّ الروس عن إرسال إشارات متفاوتة عن مدى تمسكهم ببقاء النظام السوري، منذ انفضاض محادثات بوتين مع نظرائه الغربيين في قمة الثماني، وبات التمسك بالأسد عنواناً ثابتاً مدعوماً بتدفق الأسلحة، ما سمح للنظام باستخدام كثافة غير اعتيادية من النيران على جبهات في آن. أما الغرب فلم يسارع إلى إرسال الأسلحة على نحو ما كان يأمل به بعض قوى المعارضة، بل تراجع خطوات إلى وراء، وراحت دوائر صنع القرار فيه تتحدث عن بقاء الأسد لمدة قد تصل إلى سنوات لا تتوقف الحرب في أثنائها. باختصار ترسخت مقولة امتناع الحل السياسي في سورية حالياً، جنباً إلى جنب مع مقولة عدم إمكانية الحل العسكري، وهكذا توقفت الديبلوماسية عن العمل، أقله عن النشاط الظاهر، مع عدم وجود مؤشرات الى لجوء الغرب إلى الحرب كأداة سياسية.
في الواقع كانت الإدارة الأميركية أول من روّج فكرة مشاركة الروس، وعدم استبعادهم من أي حل في سورية، ومع ترددها وتصلب الروس تكاد فكرة المشاركة تغيب لمصلحة استفرادهم بالساحة السورية، والتقدم تالياً على صعيد النفوذ الإقليمي على نحو يعيد متاريس الحرب الباردة إلى المنطقة، ويعزز في شكل خاص قوة حليفهم الإيراني على حساب القوى الإقليمية الأخرى، باستثناء إسرائيل ربما. ذلك ينبغي أن يستدعي اهتماماً أكبر من تلك القوى، وعدم ترك ملف التفاوض للإدارة الأميركية التي سبق لها أن تخلت عن حلفائها مرات عديدة، قد لا يكون آخرها في لبنان والعراق.
وحاولت المعارضة السورية التفاوض مراراً مع الروس، فهيئة التنسيق التي لا تخفي عداءها للغرب والخليج، جربت مراراً انتزاع تنازلات من النظام بوساطتهم، لكنهم لم يقدّموا لها شيئاً، بل إن أحد أهم كوادرها اعتقل لدى عودته من زيارة رسمية للصين، ولم يساعد الروس في إطلاقه أو الكشف عن مصيره. المجلس الوطني وائتلاف قوى المعارضة، وعلى رغم إداناتهما المتكررة للدور الروسي، جرّبا التفاوض في أكثر من مناسبة، إحداها برعاية أميركية، إلا أن نتيجة المفاوضات لم تحرز حتى تفاهماً بسيطاً يؤسس لاستمرارها.
المعارضة لا تملك الآن ما تقدّمه للروس بالمقارنة مع الصفقات التي يعقدها النظام معهم، وليست لديها أوراق تضغط بها سوى الوضع الميداني الذي يجاهد الروس لتعديله لمصلحة حليفهم. وحدها القوى الإقليمية، وفي طليعتها دول مجلس التعاون وتركيا، تملك أوراق الضغط والحوافز التي قد تمكنها من مفاوضة الروس، بخاصة لأن الصراع لم يعد يقتصر على الساحة السورية، ويُنذر على الأقل بتغييرات إستراتيجية كبرى في شرق المتوسط.
لم يكن متوقعاً في أية حال أن يضع الغرب علاقاته المتشعبة مع روسيا في كفة والملف السوري في الكفة المقابلة، هذا قد يختلف إلى حد كبير مع دول الخليج التي ترى نفسها مهددة بتعاظم الدور الإيراني، فيما لو ربح الروس الرهان السوري. صحيح أنهم يعتمدون سياسة الروليت الروسية، أي المقامرة القصوى، إلا أن الخيار الانتحاري قد يتفاقم في ظل عدم وجود بدائل أو حوافز مغرية للتراجع عنه.
لدى دول الخليج وتركيا أوراق ضغط لم تستخدم بعد، فحجم مبادلاتها مع روسيا في تصاعد، ولم يتأثر باختلاف المواقف حول سورية. المبادلات التجارية مع دول الخليج ارتفعت العام الماضي لتزيد على 11 بليون دولار،أكثر من 10 بلايين منها مستوردات خليجية من روسيا. أما حجم المبادلات بين تركيا وروسيا فوصل إلى خمسين بليون دولار، مع العزم على مضاعفة الرقم خلال السنوات المقبلة. ومعلوم أن قمة أردوغان-بوتين في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أسفرت عن تحييد الملف السوري عن العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.
بالتأكيد ستكون القوى الاقتصادية الروسية المؤثرة والداعمة لبوتين سعيدة بعدم تأثرها بسياساته في المنطقة، ولن يكون لديها أدنى حافز للضغط عليه من ضمن التحالف المعروف بينهما، ما لم تحاول الدول المتضررة ربط تطور العلاقات الاقتصادية بالشق السياسي. صحيح أن الروس استفادوا من العقوبات الغربية على إيران فتطور حجم المبادلات معها أيضاً، إلا أن الحجم الحالي لا يساوي سوى نصف المبادلات مع دول الخليج، وليس قابلاً لزيادة كبيرة بسبب الأزمة الاقتصادية في إيران. لذا يمكن حكومات الخليج وتركيا التقدم لمفاوضة الروس ضمن رزمة متكاملة من الضغوط والحوافز. الأمر هنا لا يتعلق بالمسألة السورية فحسب، بل بمجمل موازين القوى في المنطقة، وعلى رغم أن الروس ما زالوا يعطون الأفضلية للشق السياسي، وحتى لما يشبه نزعة ثأرية تجاه الغرب، لكن ذلك قد لا يكون نهجاً مطلقاً.
ما يصح على روسيا يصح بدرجة أكبر على الصين التي لا تزال تؤيد النظام السوري أيضاً. فحجم المبادلات التجارية بينها ودول الخليج قفز العام الماضي إلى نحو 155 بليون دولار، مع اعتماد ملحوظ منها على المستوردات من النفط الخليجي. ولا تخفى سوابق الحكومة الصينية في أزمات دولية مماثلة عندما ضحت بالموقف السياسي، أو استثمرته، للحصول على مكاسب اقتصادية، وما يسهّل التفاوض معها أنها لا تعدّ نفسها أصلاً للعب دور محوري في المنطقة.
قد لا يكون من بد في النهاية من التفاوض مع موسكو، على رغم ما هو معروف عن الدب الروسي من بطء وقلة مرونة، وعلى رغم الروليت القاتلة التي يلعبها في سورية منذ سنتين. التعويل على الإدارة الأميركية في لجم الروس والإيرانيين فشل مراراً، وواضح أنه يقتضي انعطافة كبرى في السياسة الأميركية، وهذا غير متوقع في ما بقي من عمر الإدارة الحالية. لا تخسر القوى الإقليمية الكبرى إن جرّبت هذا الخيار الصعب، لا تفعل من أجل السوريين حصراً، تفعل ذلك لأنها قد تضطر إليه لاحقاً في ظروف أكثر ملاءمة للدب الروسي، إذا لم تكن طلقة الروليت الأخيرة في سورية من نصيبه.
الحياة ـ ٢٨ يوليو ٢٠١٣