ربيع القاهرة يفتتح عصر التنوير العربي أخيرا؟ ـ مطاع صفدي
الولادة العسيرة للديمقراطية العربية لم تُنجز بعد، إلا القليلَ من ثورتها السلمية عندما داهمتها التحديات الدموية.
فالديمقراطية والصراع الدموي لا يشكلان سوى ثنائية شديدة التعارض، لكنها مفروضة على مجتمع التغيير، وهي بالنسبة للكتل الشابية المتصدرة لحركات التغيير ستكون مصدر مآزقهم الذاتية، سواء على المستوى الوجداني الخالص المتعلق بهموم الخيارات الفكرية أو مركّباتها السلوكية على مستوى الأفعال العامة. فالشبيبة العربية غير متآلفة مع غوايات العنف بحكم تربيتها البيتية الوادعة، وكذلك في تفاعلها مع بيئة اجتماعية مسالمة. وعندما تتدافع أرتالُ هذه الكتل نحو العمل السياسي، فإن دوافعها إلى هذا النوع من الحراك ستكون أقرب إلى العنف الأخلاقي منها إلى العنف المصطلح عليه بالصفة الثورية في هذه الأيام.
فالأول، أي هذا العنف الأخلاقي يظل مسلحاً بالقيم وحدها، وإن يكن مبالِغاً في استخدامه لها كسلطة ردْعٍ أكثر منها كنتاجٍ لقناعةٍ برهانية. بينما العنفُ الثاني المصنّف ثورياً، فإنه قد يهزأ من الأخلاق، ويمنح نفسه حريةَ التجاوز واختراق صروح الاعتبارات المتواضع عليها ثقافياً واجتماعياً، مسوِّغاً ذلك بإرادة الثورة. وهي في واقعها لن تكون أكثر من إرادة الناطق باسمها. ذلك أن الأسوأ في مثل هذه الأوضاع الشاذة هو ادعاء فئات أو أشخاص صفةَ الوكالة عن هذه الأسماء الكلية الكبيرة، سواء كان هو اسم الدين أو الثورة أو السلطة. إنها الوكالة الزائفة في أغلب الأحيان.
هؤلاء الأفراد، المتطلعون لصعود المنابر، أوكلوا لذواتهم النطْقَ بلسان المفاهيم الكلية أو الأسماء الجمعية، وضعوا خطاباتهم/تعليماتهم تحت طائلة أو هيبة هذه الوكالات المفترضة، يستمدون منها المصادقة المسبقة على توجيهاتهم، المصدّرة إلى جماهيرهم. لن يكونوا هم القادة الحقيقيين للحركات الشعبية المظفرة تاريخياً، لكن الأقلّ القليل منهم هو من سيكون الفاعِلَ المؤثر حقاً الذي ستحفظه ذاكرةُ الحدث الحاسم في تاريخ هذه الأمة أو تلك. أما الأكثرية منهم سيختفون ما أن تختفي أصواتهم في لحظتهم الطارئة على الأزمنة العامة، بعد أن حاولوا أن يكونوا هم فرسانها الطليعيين. نقول هذا، وليس المقصود فحسب التحوّط إزاء كل من أدركته حرفة (المنبرية) في محافل السياسة والثقافة، بل ما هو أسوأ منها حينما تتحول إلى عادة وبائية في التلطي وراء كل ما هو عمومي لإخفاء الخصوصي المستكره من قبل هذه العامة نفسها.
تاريخ ثوراتنا العالمثالثية والعربية خاصة، حافل بعاهات الحِرف المنبرية، بالأمثلة الفاضحة لمختلف نماذجها، وما تبعها من أدوار التحريفات أو السقطات المشينة التي تدمر أحلام شعوبها بين واقعة منبرية وأخرى. واليوم تأخذ الشاشات الضوئية على عاتقها تعميمَ ظاهرة الحرفة المنبرية هذه، كوَباء مستحبٍّ ومرغوب من ضحاياه أنفسهم وليس من أصحابه ومخرجيه فقط. مجتمعاتنا باتت مقودة بأشباح وأصوات الشاشات المضيئة في الصالات أو في غرف النوم من بيوت العرب في مختلف |أصقاعهم. ثوراتنا لا تعيش ولا تدوم فقط في الشوارع والميادين من العواصم البعيدة، لكنها حية وفاعلة داخل بيوت كل الناس في بلادنا، ليست هي سلطة الإعلام، لهذه القناة التلفزية أو سواها التي قد تحيي أو تميت ظاهرةً ثورية معينة، بل ثورةً كاملة. والأمثلةُ على هذه الحالة يومية متتابعة، بل هو الدليل المتجدد على مدى قابلية الجماعات الهائجة للتلقينات الفوقية المدعية للإصلاح، ولِمَ لا تكون للتضليل كما هي في أغلب الأحوال.
جماعاتنا الإنسانية اختبرت كلَّ أنواع الاستبداد، وهي اليوم تكاد تخضع لأحدث استبداد، وربما للأدهى من كل ما ابتليت به من نماذجه الكالحة، إنه سلطان الشاشات الضوئية التي لا تتحرر من لمعانها عيونُ الشباب للحظات أو سويعات، حتى تستأنف كلَّ صنوف الانصياع الطوعي لما ترسمه رموزُها، في هذا العصر الذي تتهاوى فيه أصنامُ الديكتاتوريات الدولانية، تتفشَّى ديكتاتوريةُ الصورة الضوئية؛ تصير الشاشةُ هي عالم كل فرد، وليست مجرد نافذة على عالم الآخرين. فالفرد مكره طوعياً، منصاع بإرادته لعنف الإثارة، تفجّرها سيولةٌ معرفية ما، أو حلقةُ حوارٍ أو تواصلٍ مع الآخر. فالحواس ملتصقة بخيالات الشاشة، إنها السلطة المالكة وحدَها لعنف التحريض. تنحلّ السياسةُ في القرن الواحد والعشرين إلى مجرد فن في التحريض الجماعي فحسب.
صراعاتنا الشعبوية الرافعة لشعارات ثورات الربيع، واقعة جملة وتفصيلا تحت سلطة التحريض. ليست هي الأفكار الاجتماعية ولا حتى الدينية هي المحركة لهيجانات المجاميع الشعبوية. قوة التحريض تُخرج الشعار (الثوري) من مضمونه الأصلي، تجندّه في التهييج كغاية في ذاته. أي أن التحريض يولد الشعارات المتضادة، يجردها جميعها من أهدافها (الموضوعية)، تصبح كلماتُ التحريض أسلحةً لفظية، لكنها قاطعة وحاسمة مع ذلك. هكذا، كلما اشتد التحريض في لحظات المواجهات الحدية بين الكتل/المجاميع البشرية ـ كما يحدث في الميادين المصرية هذه الأيام ـ كلما باتت الكتلة الشعبوية نفسها كأنها هي الحاكمة بأمر قيادتِها وتسييرها؛ حتى زعماؤها أنفسهم، ينجرفون في تيارات قواعدهم.
علم اجتماع الجماهير حذّر دائماً الساسةَ من التلاعب بمكامن الطاقات المكبوتة، من صدمة انفجاراتها غير المتوقعة. هذه الكتل الهائلة من كل الناس على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم، قد يحوّلها التحريضُ السياسي الفوقي إلى سيول جارفة من قوى الطبيعة المجهولة. فالتحريض والعنف يتعاونان معاً على إلغاء الأدوار الأخيرة لإرادة الوعي الجمعي. ما يتبقّى لهذه الإرادة من جهدها الاستقلالي قد تبدّده في اختلاق مبررات التسويغ لمنجزات الأمر الواقع، التي فُرضت عليها، ولم يكن لها ضِلعٌ في أحداثها.
جماهيرنا العربية واقعة اليوم تحت أسواط التحريض، تتلقى ضرباتها من مختلف منابر الخطابات التحشيدية، بصرف النظر عن هوية الجهات والجبهات والشعارات، إنها تخلّف الجماهيرَ وراءها فاقدةً لبقايا أمانها الإنساني، ليس هو القلق والاضطراب والخوف على المصير ومنه، الذي يعصف بالاجتماع العربي من أقصاه إلى أقصاه، يتجاوز ثوَّاره إلى من ليسوا ثواراً بعد. لكنه عالم عربي، يعيش في معظمه تحت وطأة تحريض كلياني، يجتاز مراحلَ انتقالية هذا الثائرُ منه ومن ليس ثائراً بعْدُ؛ كأن الجميع فارقوا استقرارهم البليد، ما ينتظره الطلائع من المراحل الانتقالية الشاقة، ليس سوى كلمات.. تحريضية أخرى، مشتقة كلها من حديقة الحرية والمدنية، هاتان اللفظتان قد يشرّع العقلُ لهما وحدهما، ممارسةَ التحريض الآخر المختلف، هذا الدافع الذي يثير الشغفَ الإنساني الأعمق بالحرية، أن يعيش المجتمعُ على مستوى الحقيقة والعدالة. كيف يمكن فهمُ يقظة الملايين دفعة واحدة من كل أولئك الناس العاديين مطالبين بإسقاط لصوص السلطة، لو لم تكن مُثُل الحرية والعدالة والمساواة لا تزال تمتلك ذلك الذخر العظيم من قوة التحريض الإيجابي، دافعة بالملايين حقاً إلى استعادة الكرامة. ههنا يمكن للتحريض أن يحقق وظيفته الاجتماعية المشروعة، أن يمارسه القادةُ المصلحون في استنهاض إرادة التغيير الجماعية.
هذا لا يعني بالطبع أن التحريض على السوء قد يختفي من الساحة تلقائياً. هنالك إرادة أخرى للتضليل الجماعي تظل قادرة على استثمار أنبل عواطف الجماعة لحساب أحطّ غرائزها. تماماً كما يحدث لهذا الإسلام العظيم اليوم من أفانين التحريفات المسعورة بالتعصب الأعمى، تلك الأضاليل المشبوهة المستوحاة من عصر انحطاط الحضارة الإسلامية، هذا النوع من التحريض المسموم، منظّمُ ومدروس، ليس عفوياً، ولا هو من نسيج التقوى الإيمانية الواعية. ولقد اشتغلت عقول خبيثة كثيرة طيلة عصور الانحطاط وما بعدها، على استنباط (علوم كلامٍ) تقيم سدوداً من التأويلات المنحرفة، فاصلةً ما بين الوجدان الديني العفوي والعقل النيّر.
إنها حقاً حمولة هائلة من نفايات العصور البائدة، تحاول أن تسلب العقل الجماعي بداهته العفوية عند كل منعطف نهضوي، تفرض على المجتمع المتحرك انصياعاً لتجارب صراعية زائفة، تستنفد قواه الجديدة، وقد تتركه أسيراً لأضاليل يأسه التقليدي، لكن ‘الربيع العربي’ يبدو أنه لن يستسلم لمصير المنعطفات الفاشلة التي سبقته، إنه يواجه بتصميم ووعي متميز هذه العاهةَ اللاحضارية، لعلّه يدخل عملياً أشق مآزقه البنيوية، وهو عازم على الصمود هذه المرة في التعامل الواعي مع ما هو أشدها شراسة في الدفاع الذاتي وأبعدها تجذراً في سلالة التخلف المتوارث، والمقصود هو تصفية الحساب الحضاري مع ثقافة التحريض الكارثي، سواء كانت بضاعتُها مشتقّةٌ من مفردات الإيديولوجيات الخلاصية والطوباوية، أو أنها انتهت أخيراً إلى التبضّع بمفردات القدسيات وأشباهها من العنصريات أو الغيبيات المقنعة.
الربيع العربي يخوض في ميادين مصر مرحلة التصفيات النهائية (ربما)، مع المواسم البائدة لبعض محاصيل هذه الثقافة الكارثية، لعله يشرع في تسجيل بعض الأضواء الحقيقية الأولى لعصر تنوير عربي طال انتظاره…
القدس العربي
JULY 28, 2013