آثار ضعف وتهميش القوى الثورية على سياقات الإنتفاضة الشعبية الثورية ـ عزيز تبسي
ما من إنتفاضة شعبية ثورية يمكنها السير على نسق خطي واحد، ليتطابق زمن بدايتها مع الزمن الذي يليه، بدأت الحرب الأهلية اللبنانية بالبرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية وقوته الدعاوية والتحريضية و التعبوية وبإسناد من فصائل المقاومة الفلسطينية، وإنتهت بهيمنة حزب الله وإقتسام السلطة بين أمراء الحرب، اللذين لم يكونوا في بدايتها سوى قوى هامشية وغير فاعلة في سياقاتها، ومثلها الثورة الشعبية الإيرانية التي إنطلقت بكفاح قوى ثورية متعددة بخياراتها السياسية والأيديولوجية، وإنتهت بسيطرة مطلقة للحزب الجمهوري الإسلامي….والعديد من حركات التحرر الوطني التي إنطلقت ببرامج ثورية واعدة، ووصلت منذ زمن إلى المواقع النقيضة، وسعت إلى شراكة في السلطة السياسية، أو مكتفية بفصل جزء من جغرافيا البلاد، مبددة كل الإرث الكفاحي والتضحيات الشعبية على موائد تسويات تتوخى لها التاريخية، أي الثبات النهائي والخضوع للشرط الزمني اللحظي.
تعكس الخيارات السياسية الثورية وتوضيحها وإبرازها ،الآثار الفاعلة لعلاقات القوة وإعادة إنتاجها، ودور الإصطفافات الجديدة، ودور الفاعلين المرئيين والمحجبين في إنتاج التفضيلات، ذات العمق المصلحي، داخل السياق الثوري.
برزت في الإنتفاضة الشعبية الثورية، مجموعة من العناصر التكوينية التي عجزت القوى المتعددة المشتركة فيها والمتفاعلة معها عن تجاوزها:
1) العفوية عبر تجلياتها المتعددة وهي أثر للإستبداد السياسي الطويل، وكان قد سبقها منذ سنوات ورافقها بروز وهيمنة نظريات إحتقار الأحزاب والعمل المنظم، التي سوقتها المراكز الإمبريالية عبر توسطات مجموعات المنظمات غير الحكومية وبإسناد من الإعلام العربي الرجعي وسواهما.
2) غياب الخطة الثورية الواقعية، أي الخطة المؤسسة على معرفة علاقات القوة والإمكانات الحقيقية عند الكتلة الشعبية المنتفضة وعدوها السياسي في آن، وغياب قيادة موحدة للإنتفاضة..
3) العجز عن مقاربة الوسائل التي تحاصر وتفكك، العدوانية الحربية الفاشية، التي ظهرت بقوة من الساعات الأولى ومعاينة آليات الرد الإستراتيجي عليها.
4) خيانة المعارضة التقليدية للإنتفاضة الشعبية الثورية، وعجزها عن قيادتها، وأخذتهاعنوة إلى خياريين رجعيين إثنين، إما الإرتماء في الحضن الفاشي عبر إجتراح خيار الحوارات معه والتي بلانهاية وبلا أهداف ثورية محددة، وكأن الإنتفاضة الشعبية غير قائمة(أنضج المعبرين عن هذا الخيار هيئة التنسيق الوطني…….) وإما الإرتماء في الخيار الإمبريالي-الأطلسي ومرتكزاته الإقليمية(أنضج المعبرين عن هذا الخيار المجلس الوطني السوري…)وهما للحقيقة مقاربتان كانتا حاضرتين في الأدب السياسي المكتوب والشفهي، قبل إنطلاقة الإنتفاضة الشعبية الثورية وإستمرا بعدها…
5) عجز الكتلة الشعبية المنتفضة عن تشكيل بدائل واضحة وفاعلة للخيارات السياسية المطروحة، تمكنها من إزاحة المعارضة التقليدية أو تحجيمها وحصارها، رغم تهيؤ الشروط الموضوعية والذاتية لإنتاج أنوية بدائل واقعية، وماتزال تعمل القوى التي تبنت هذا الخيار بإرادة ثورية صلبة، لكنها بقيت على الهامش الثوري، محاصرة من قوتين نافذتين إعلامياً ومالياً الفاشية العدوانية والمعارضة التقليدية، وتعززت هامشيتها بعد السيطرة المطلقة للعسكرة وأدواتها وأنماطها التعبوية، متجاهلة عن عمد أو عن غباء سياسي قوة الدعم المالي والإعلامي والتنسيق التي تحظى به الجماعات السياسية الأخرى، الذي منحها أفضليات كبيرة في توصيل نوافل صوتها وخطابها، وعملياتها المتواصلة بالعزل الكيدي لخصومها السياسيين ومن يخالفها الرأي، وعمق الإرتباطات الخيانية، السابقة واللاحقة، للكثير منها، حيث باتت مصادر تمويلها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، أبرزها وزارة الخارجية الأمريكية والبريطانية ووكالة مخابراتيهما، اللذين يمولان ويشرفان ويهيمنان عبر وسائط محلية على معظم الدورات التدريبية على ما يسمى المجتمع المدني ووسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء التي تنتجها، ويعمل تحت برنامجهم العديد من ذوي الماضي اليساري، يضاف لهم فاعلية وتدخل العديد من منظمات وجمعيات عربية ودولية من الإسلام السياسي الدعاوي والجهادي، بثقلهم المالي والإعلامي..
6)الدور المتعاظم للإسلام السياسي عبر تعدد مقارباته، والتي تصب في عمومها في الإتجاهات المناقضة لمقولات الإنتفاضة وأهدافها…
7)دور الفاشية-الطائفية في تقوية ودعم بعض التفضيلات في الإنتفاضة الشعبية…..مثل البدايات في العسكرة الحمائية-الدفاعية، والطائفية المضادة المتصاعدة بأشكال متعددة..
8)تهميش الضباط المنشقين، وحصارهم وإبعاد أغلبهم عن جغرافيا الإنتفاضة، وإفساح الدعم للقوى العسكرية الرجعية…
في سياق هذه الحزمة من الشروط الموضوعية وسواها، أغرقت الفاشية الإنتفاضة بآلاف من المجرمين المفرج عنهم وفق مراسيم عفو عامة وخاصة، وقرارات واضحة بكف البحث عن المطلوبين الجنائيين…وألحقتهم بعد ذلك بمجموعات كبيرة من المعتقلين الإسلاميين على خلفية الجهاد في العراق أو في مخيم نهر البارد في طرابلس، كانت بعض قياداتهم الفاعلة وبعض انصارهم قد إرتبطوا بها أمنياً…وهذه ليست سابقة سلطوية سورية، كان قد سبقتها إليها السلطة المصرية عندما أفرغت السجون وطلب ضباطها المسؤولين بشكل واضح من المساجين الذهاب لسرقة بيوت المتظاهرين والمعتصمين في ساحة التحرير والإعتداء الجنسي على نسائهم وأولادهم، وفق فيديوهات نشرتها في حينها قوى الثورة المصرية مع العديد من هؤلاء المجرمين….
وكان قد أخذ معظم هؤلاء في الشرط الكفاحي للشعب السوري، مواقعهم في التظاهرات بهتافات غريبة عن المتظاهرين وبعيدة عن أهداف الإنتفاضة الشعبية الثورية، وهي برمتها هتافات طائفية صريحة، وتحرض بشكل مبكر على ضرورة إستخدام السلاح، وهناك مئات الشواهد على هذا في حمص واللاذقية وجسر الشغور وحلب ودمشق، تمت مقاربة هذه الحالة في حينها من قبل قوى الثورة وجرى تصنيفها تحت إسم فضفاض: المندسين، وليجري التعاطي معهم في زمن لاحق كقوى أمر واقع، بعد تحولهم إلى قادة كتائب عسكرية…
وفي سياق التحول الأولي إلى العسكرة الدفاعية-الوقائية، تحول الكثير من هؤلاء المجرمين، إلى عمليات السطو المسلح على أملاك الفلاحين والخطف بغاية طلب الفديات بإسم الثورة والجيش الحر فيما بعد…أمام عجز قوى المعارضة التقليدية عن تفسير هذه الظاهرة، والتي خالها الكثيرون شكلاً أرعن من أشكال تمويل الكفاح المسلح ومتطلباته، وتواطئ أبرز معارضتها التقليدية(المجلس الوطني،والإئتلاف الوطني..) مع هذه الحالات بذريعة تافهة،إنهم يقاومون السلطة الإستبدادية، ليجري تصنيف متأخر في حلب على سبيل المثال، لأكثر من عشر كتائب كبيرة ووازنة بكونها كتائب حرامية وخارجة عن أهداف الثورة، وظهر بالتوافق مع هذا التصنيف عجز الكتائب الأخرى عن تحجيمها وتجريدها من السلاح ومحاسبتها…..
وتنشأ في السياق ذاته وبعد عام تقريباً على العسكرة وعام ونصف على إنطلاقة الإنتفاضة ظاهرة الكتائب الإسلامية المقاتلة وأبرزها جبهة النصرة ، التي تواقتت عملياتها العسكرية “بالمصادفة” مع المبادرات العربية والدولية لحل الأزمة السورية….وعضت جماعة المجلس الوطني، بفكها على هذا الطعم المسموم ،وبدأت تدافع عن الجبهة وتعتبرها من القوى الرديفة لمقاومة الطغمة العسكرية، وكرمتها المواقع الإعلامية التي تمولها، بتسمية جمعة بإسمها، وإندفع العديد من قادتها للقاء قادة الجبهة في المناطق المحررة، حصل هذا رغم وضوح خطاب الجبهة وعدم إلتباسه، في الوقوف ضد مقولات الإنتفاضة الشعبية الثورية في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والمواطنة….وتصوراتها عن سوريا المستقبل، ورفضها لأي شكل من أشكال الإنضواء تحت مشاريع المجلس الوطني “العلماني” وفق قناعتها، وهيئاته، ورفضها الإلتحاق والتمثيل بالمجالس المحلية والمحاكم الشرعية…ولتصل في الأشهر الماضية إلى تسيير مسيرات من تلك التي كان يسيرها سلفها البعثي لتهف “طز فيك حرية”… الخ.
من حق الثوري الحقيقي، لا ذاك المصاب بهبل الجملة الثورية المنفصلة عن الوقائع ،السؤال عن خواتم الكفاح الشعبي الثوري وتضحياته، بعد هذه العتبات الجديدة التي دخلت بها الإنتفاضة، والتي لن تخرج منها إلا وهي منهكة ومنزوعة عنها أهدافها الثورية برمتها.
عزيز تبسي حلب تموز 2013