رحيل شارون المفترض: للنظام السوري طول البقاء! صبحي حديدي
في صيف العام 2006، حين أجبرت الغيبوبة أرييل شارون على مغادرة الحياة السياسية، كان آخر مواقفه، بصفته رئيس وزراء وزعيماً لحزب ‘كاديما’، هو الدفاع الشرس عن نظام بشار الأسد، وتوفير الأسباب الكفيلة بحفظ بقائه، وعدم المضيّ في الضغوط الأمريكية ـ الفرنسية (أيام الرئيسين الأمريكي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك) إلى مستوى يهدّد بانهيار بنية النظام. ولتذهبْ إلى الجحيم، طبقاً لمنظومة تفكير شارون، تخرّصات القائلين بـ ‘شرق أوسط جديد’ ديمقراطي، يفسح أيّ مجال أمام سقوط النظام، وقيام سورية جديدة ديمقراطية. إذا قامت هذه فإنها، في يقين شارون لن تعيد فتح ملفات الجولان المحتلّ، فحسب؛ بل سوف تعيد تركيب الجبهة السورية، شعباً وجيشاً ودولة ومؤسسات، بما يكفل استيلاد أخطار جدّية غير مسبوقة على أمن واستقرار إسرائيل.
من الإنصاف المحض، إذاً، أن يكون آل الأسد في عداد متقبّلي التعازي بغيبوبة شارون تلك، وكذلك اشاعة رحيله أخيراً؛ خاصة وأنّ السياقات الراهنة، لجهة إصرار إسرائيل على إطالة عمر النظام السوري، تكاد تتطابق مع سياقات العام 2006، وتعيد إنتاج المسوغات ذاتها التي حثّت شارون على المطالبة بحفظ بقاء وريث حافظ الأسد، السائر على هديه في إسباغ السكينة والسلام على طول حدود الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وإضفاء الأمان والاطمئنان على المستوطنات والمستوطنين هناك. وكان شارون يدرك جيداً، ولم يكن بحاجة إلى استعادة وقائع التاريخ القريب لكي يتأكد، أنّ هذا الوريث لن يذهب البتة أبعد مما فعل أبوه خلال مذابح صبرا وشاتيلا، والغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، أو حصار المخيمات الفلسطينية وتجويعها…
صحيح أنّ الدفاع عن هذا النظام، تحديداً، لم يكن يلغي مقولة الأصل، أي حقيقة أنّ سورية الشعب والجيش هي، في العمق الستراتيجي المديد والبعيد، بلد معادٍ في الجوهر، مثله في ذلك مثل الشعب والجيش في مصر والأردن. ولكن من الصحيح، أيضاً، أنّ إسرائيل كانت تتمتع، وتستمتع، بمــــزايا تلك التـــبدّلات الكبرى التي طرأت على خريطة ما يُسمّى بـ ‘الأنظمة الراديكالية’ في العالم العربي: إخراج العراق من ساحة الصراع، تطويع ليبيا، إحياء المحور السعودي ـ المصري وتمتين وظائفه في الضغط أو التوسّط أو الإنابة الإقليمية على نحو يضمن حسن تنفيذ أغراض السياسة الأمريكية؛ وما إلى هذا وذاك من عناصر مشهد متحوّل قلب معادلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، رأساً على عقب أحياناً.
وليس صعباً على المرء أن يتفهم أسباب شارون في الدفاع عن هذا النظام، خاصة حين برهنت وقائع الانتفاضة السورية، شهراً بعد آخر، أنّ الفرضيات التي اتكأ عليها جنرال صبرا وشاتيلا، إنما تُفرز الحيثيات ذاتها التي انتظرها من جيش النظام: قُصفت القرى والبلدات والمدن السورية المنتفضة، بالأسلحة المدفعية والصاروخية الفتاكة كافة، وبالدبابة مثل المروحية والقاذفة، فضلاً عن صواريخ ‘سكود’… على مبعدة أمتار من خطوط الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، تحت سمع وبصر الجيش الإسرائيلي السعيد بالمشهد، الآمن المستريح المطمئن. وهكذا، لم يكن شارون يهذي أو يجدّف حين طالب واشنطن وباريس بتخفيف الضغط عن نظام الأسد، ولم تكن أضغاث أحلام تلك المقاربة التي قادته إلى تعليق كلّ تلك الآمال على وارث ‘الحركة التصحيحية’.
كان جلياً، أيضاً، أنّ ملفّ التوريث، وترتيب بيت النظام الداخلي لقبول الوريث، وتمكينه قدر المستطاع؛ قد اكتسب أولوية قصوى عند الأسد الأب، فور عودته من قمّة جنيف مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، في آذار(مارس) 2000، واقتناعه بأنه لن يحصل على مطالب الحدّ الأدنى التي تجعل عقد مثل تلك الإتفاقية مصدر قوّة لوريثه، بدل أن تكون مصدر ضعف. ولهذا قرّر أن يذهب مذهباً آخر مختلفاً تماماً: لقد عاشت سورية في سياقات اللاحرب ـ اللاسلم منذ 32 عاماً، 29 منها في عهده هو، ولم تلعب تلك السياقات أيّ دور في المسّ بمعادلات الوضع الداخلي كما رسمها ونفذّها بدقّة هندسية صارمة. في وسع سورية، استطراداً، أن تعيش طوراً إضافياً في ظلّ السياقات ذاتها، حتى إذا كانت أساليب معالجة أخطار انعزال البلد في غيابه لن تكون شبيهة بأساليبه هو في معالجة تلك الأخطار.
وبالفعل، بعد شهرين على انطلاق الانتفاضة السورية، أعلن رامي مخلوف، صيرفي النظام وابن خال الأسد، أنّ أمن سورية مرتبط بأمن إسرائيل؛ ثمّ نقلت صحيفة ‘يديعوت أحرونوت’ الإسرائيلية، عن مصادر أمريكية، أنّ الأسد أرسل ما يفيد استعداد نظامه لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل؛ مع تشديد على أنّ استئناف جولات التفاوض لن يكون ميسّراً إلا إذا… ‘هدأت الأوضاع الداخلية’ في سورية. إحياء، إذاً، للعبة العتيقة إياها: أنّ التفاوض مع إسرائيل، وما ينطوي عليه من التلويح بالتنازلات، هو أحد الركائز الكبرى التي يعتمد عليها النظام في تأمين منافذ النجاة، كلّما لاح خطر داهم؛ فكيف إذا كان الخطر الراهن داخلياً صرفاً هذه المرّة، يأخذ صفة انتفاضة شعبية شملت سورية بأسرها؟
صحيح أنّ شارون كان في موت سريري منذ سبع سنوات، إلا أنّ خبر وفاته مؤخراً، يجيز انتظار تقبّل العزاء من نظام كان الجنرال الميت يريد له… طول البقاء!
5/8/2013- القدس العربي