الجحيم… في ما خصّ سورية علي العبد الله
في رواية «الجحيم» للوجودي الفرنسي هنري باربوس تجسيد لواقع الإنسان غير الواقعي عبر قيام بطله كولن ولسن باللجوء إلى غرفته في الفندق وإغلاق بابها والعيش لمراقبة الآخرين من ثقب الباب، أو من ثقب في الجدار، و «مع أنه لا يرى إلا الفوضى فإنه يقول إنه يرى أكثر وأعمق مما يجب».
فهل هذه هي حال بعض الدول والمنظمات الأممية والشخصيات العامة والإعلامية عند تناولها الشأن السوري؟
تفاجئنا تعليقات بعض مسؤولي الدول، وكذلك تقارير لجان الأمم المتحدة التخصصية، ومواقف شخصيات عامة وتحليلات كتاب ومعلقين صحافيين حول الملف السوري بتقديمها الأحداث والوقائع العرضية والصور العابرة والهامشية على الوجه الرئيس للوضع. فقد فاجأنا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحافي مع رئيس وزراء بريطانيا قبيل لقاء دول مجموعة الثماني في إرلندا برفع الصوت في وجه مواقف غربية كانت تتحدث عن تسليح المعارضة قائلاً: «أتريدون تسليح أكلة لحوم البشر؟». في إشارة إلى تصرف صبياني معزول قام به مقاتل يدعى أبو صقار «كي يدخل الهلع إلى قلوب جنود النظام» كما قال في مقابلة لاحقة معه.
لم يرَ السيد بوتين قصف المدن والبلدات والقرى بالطائرات والصواريخ والراجمات ومدافع الهاون والصواريخ الباليستية والقنابل العنقودية والفوسفورية والفراغية والبراميل المتفجرة التي حصدت آلاف المدنيين الأبرياء، واستخدام الغازات السامة في عدد من المواقع. لم تحرك مشاعره صور الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ وأشلاء المواطنين السوريين أمام الأفران وفي الأسواق، ولا هزت ضميره صور المدن والبلدات والقرى المدمرة، كما هزه مشهد تمثيلي فج ومدان، ولم يسأل نفسه عن الدور الذي يلعبه السلاح الروسي المرسل إلى النظام في هذه المجزرة المتواصلة منذ عامين ونيف؟
كما كان لافتاً حديث رجال دين شيعة حول دوافعهم في تأييد قتال الشيعة مع النظام ضد الثوار بـ «استفزاز المعارضة السورية الغبية، وفق كلام السيد أياد جمال الدين لقناة العربية، الشيعة عبر نبش قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي ودفعهم إلى التجنّد لحماية المراقد المقدسة، خصوصاً مرقد السيدة زينب لتعاطفهم الشديد معها نتيجة لما لاقته في حياتها من أخطار».
كم هو محزن ألا يرى هؤلاء من كل ما يحدث في سورية إلا نبش قبر أو احتمال نبش قبر آخر، مئات آلاف القتلى والجرحى وملايين المشردين الهائمين على وجوههم في البراري والجبال والمنافي، مدن وبلدات وقرى دمرت فوق رؤوس ساكنيها، لا تحرك المشاعر والعقول التي حركها نبش قبر، ولا تثير العواطف وتحرك السواعد التي حركها احتمال نبش قبر، لم يلاحظ هؤلاء السادة أن مرقد السيدة سكينة في داريا لم يمس على رغم أن المنطقة تحت سيطرة الثوار منذ عام تقريباً.
ولكن الأكثر إيلاماً تركيز تقارير لجان تحقيق حقوقية تابعة لمنظمات الأمم المتحدة على تجاوزات بعض كتائب المعارضة في تعاملها مع جنود النظام أو شبيحته، وهي بطبيعة الحال تجاوزات مجرّمة ومدانة، ودعوتها إلى التحقيق في هذه التجاوزات مع أنها لم تجرِ تحقيقاً في عمليات القتل الممنهج التي يقوم بها النظام وداعموه من عناصر «حزب الله» اللبناني وكتيبة أبو الفضل العباس وعناصر عصائب أهل الحق والحوثيين وجنود وضباط فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، ولا نجحت في التحقيق في أي من تجاوزات النظام ومجازره التي استهدفت مدنيين عزلاً في جرائم موصوفة طاولت الأطفال والشيوخ والنساء، ولا في إيصال مواد غذائية أو علاجية أو توفير مياه الشفة لمئات الآلاف من المحاصرين في مدن وبلدات وقرى في طول البلاد وعرضها لأنها لا تزال تنتظر إذناً، والعجيب أنها تتوقع الحصول عليه، من نظام يقتل شعبه بالجملة وباستخدام كل أصناف الأسلحة الثقيلة والطائرات والصواريخ الباليستية والغازات السامة.
والمؤسف أيضاً أن يقوم كثير من رجال الإعلام المقروء والمسموع، وهم فرسان الحقيقة، بدور غير بعيد من هذه التصرف البائس عبر التركيز على سلبيات صغيرة وإبرازها، وتعاميهم عن ممارسات ممنهجة يقوم بها النظام وداعموه، مثل مشاهدة قاصر يحمل السلاح وتحويلها إلى «ظاهرة» تجنيد الأطفال، أو معاملة أسرى جيش النظام وشبيحته بخشونة، وهي ممارسات تحدث لكنها محدودة ومعزولة، واعتبارها خرقاً فاضحاً لاتفاقيات جنيف في شأن الأسرى.
لقد لعبت هذه النظرة إلى الوضع من ثقب ضيق دوراً سلبياً في التأثير في الرأي العام العالمي، عبر تشويه صورة الثورة السورية في أعين قطاعات واسعة منه، وتخويفه منها، من دون أن نهمل بالطبع فشل معارضتنا في عرض الواقع وكسب تعاطف الرأي العام العالمي، ما جعله لا يعبأ بما يجري لهذا الشعب المكافح والمضحي من أجل حريته وكرامته وانتزاع حقوقه من براثن نظام عائلي استبدادي وفاسد، وساعدت على تمديد عمر المذبحة والدمار واستمرار الجحيم، وإعطاء النظام والدول المنحازة والمترددة والمتواطئة مهلاً لبلوغ غاياتها الخبيثة.
10/8/2013- الحياة