أين العلماء من مقولة (الدولة الإسلامية) في سوريا؟ ـ وائل ميرزا
ثمة مقولة تصفُ بعض الأحوال في الواقع الإنساني تؤكد بأن “من يعرفُ لا يتكلم ومن يتكلمُ لا يعرف”. وربما تنطبقُ هذه المقولة اليوم أكثر ما تنطبق على الواقع المتعلق بما يتحدث عنه البعض من إقامة الدولة الإسلامية في سوريا.
فالمؤسف، بكل صراحةٍ ووضوح، أن الغالبية العُظمى من (العلماء) مُقصّرون، وبدرجةٍ كبيرة، في مجرد التطرق للموضوع، فضلاً عن تبيان الحقائق المتعلقة به على جميع المستويات.
ففي حين تمضي بعض الأطرافُ في سوريا اليوم على طريق محاولة إقامة مثل هذه الدولة، وتعتمدُ في حركتها وتفكيرها وعملها بناءً على بضاعةٍ مُزجاةٍ من العلم الشرعي، ومن العلم بالواقع المعاصر سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، نجدُ من يُفترض بهم أن يكونوا أصحاب القول الفصل في الموضوع صامتين. ينظرون إلى الأحداث والتطورات المتسارعة والخطيرة وكأنها لا تتعلق بحاضر ومستقبل بلادهم وأهلهم، أو كأن الموضوع بعيدٌ عن محال اختصاصهم وعلمهم، في حين أن هذا الأمر تحديداً يُمثل أولوية الأولويات بالنسبة لهم ولكل ما يتعلق بدورهم ووظيفتهم في الحياة. فضلاً عن أنه مسؤوليةٌ شرعيةٌ وأخلاقية لا يمكن التهرب منها بأي عذرٍ من الأعذار.
لا يكفي هنا أبداً القولُ بأن شيئاً من (النقد) المطلوب يتمُّ في الغرف المُغلقة والاجتماعات الجانبية بنوعٍ من الخصوصية، لأن الأمر بات متعلقاً بمصير شعبٍ بأكمله. وإذا كان لابدّ من وجود شيءٍ من الخصوصية المذكورة من باب (الحكمة) في معالجة الأمر هنا وهناك، وهو ما نأملُ أن يكون حقيقياً.. فإن هناك أبعاداً أخرى للموضوع يجب أن تُعالج بكل ما في الوسع من علانيةٍ ووضوح وشمول. فأهل سوريا كلهم أصحاب هذه القضية، وهم برأيهم الجمعي من سيؤثر في اتجاهها ومسارها في نهاية المطاف، بغض النظر عن قوة السلاح التي يتوهمُ البعض أنها ستكون مصدر القول الفصل في هذا المجال.
لكن من لطائف الأقدار أن ما نطرحه أعلاه لا يسري على ثلةٍ، قد تكون قليلة، من سوريين يملكون بضاعةً في هذا المقام لا يرضون بإخفائها، ويرون في كتمانها خيانةً للأمانة وللأمة والوطن والشعب. من هنا، بات واجباً أن يتم نشرُ آراء هؤلاء ما أمكن، والمساعدة على إيصال (صرختهم) لتبلغ أسماعَ الناس في أوسع ما يمكن من دوائر وشرائح.
لهذا، ننقل في هذا المقال بعض ما يطرحه على مدونته حفيدُ الشيخ علي طنطاوي يرحمه الله وسليل مدرسته الوسطية الأخ والصديق مجاهد ديرانية. وكما هو الحالُ في مثل هذه المجالات، فإننا نرجو أولاً ألا يكون النقلُ مُخلاً بكل ما كتبه الرجل لأننا في وارد الانتقاء من مادته إلى مقالٍ لا تسمح حدودهُ بالمطولات، وعسى أن يعود إليه من يريد الاستزادة. ثم إن النقل لا يعني التوافق الكامل في كل فكرةٍ ورأيٍ بين الناقل والمنقول عنه، لأن هذا ليس من طبائع الأمور أصلاً في حقل الفكر والثقافة.
ومما يقوله الأخ مجاهد في هذا المجال: “مشكلة الذين يقولون إن دولة الإسلام مطلب فوري في سوريا هي أنهم لا يضعون أي تصور عملي لتحقيق رؤيتهم سوى أن يحكم المجاهدون بالإسلام في المناطق التي يسيطرون عليها، فيرفعون راية إسلامية ويُصدرون قوانين تَفرض على الناس الالتزامَ بالأحكام الشرعية. لكنهم لا ينتبهون إلى حقيقة مؤلمة هي من ثمرات الأمر الواقع: إن هذا التصور النظري المبسط يعني أن سوريا لن تصبح دولة إسلامية، بل ستتحول إلى عشرات الدول الإسلامية الافتراضية، إن لم يكن إلى مئات!
إذا أردنا الحكم على أمر بالصلاح أو الفساد فعلينا تعميمه، وإذا عمّمنا رأي القائلين بتقديم الدولة والحكم على الدعوة والإصلاح فسوف نجد أن كل كتيبة (أو مجموعة كتائب متقاربة) ستنشئ “سلطة عسكرية سياسية” في منطقة نفوذها، وهذه السلطة هي صورة بدائية مبسّطة من أشكال الكيانات التي تُسمَّى دولاً. إذن سوف تتعدد الدول بتعدد الكتائب والجماعات، وبما أن أحداً لم يستطع جمع الكتائب في كيان واحد فإن أحداً لن يستطيع توحيد تلك “الدول الإسلامية” في دولة واحدة، وسوف نكتشف سريعاً أنه لا سبيل إلى تحقيق تلك الغاية والوصول إلى “دولة سورية إسلامية واحدة” إلا بالاقتتال، فلا يزال بعضها يصفّي بعضاً حتى ينتهي الأمر إلى الفرقة الفائزة فتصبح هي المسيطرة على سوريا ويصبح قائدها هو حاكم سوريا الجديد.
الخبر المرعب هنا هو أن الاقتتال يُعتبَر في نظر “بعض” من يحملون السلاح اليوم أمراً مشروعاً تحت غطاء فتوى “التغلّب” التي نقدتها في مقالة سابقة، وهذا المنهج كارثي، لأن طريق التغلب العسكري محفوف بثلاث سيئات كبرى، كل واحدة منها شَرٌّ من الأخريات: يسبب الكثير من الموت والدمار، ويأتي بالأقوى وليس بالأصلح، ويفتح باب الملك الجبري وحكم الاستبداد، لأن المتغلب يستبد بقوته وشوكته فلا يتنازل لغيره ولا يتخلى عن السلطة حتى الموت، بل ربما نقلها لورثته من بعده”.
ثم يسأل الرجل نفسَه عن “البديل” في هذا المقام، ويجيب بما يلي: “ما البديل؟ البديل هو الاعتماد على الانتخاب العام بعد التحرير، فيختار الناس ممثليهم (نوّابهم) ثم يختار النواب حكومة لحكم البلاد. الطريق الآمن الوحيد هو اللجوء إلى صناديق الاقتراع، وكلما كان الناس أكثر وعياً وصلاحاً وتديناً كلما كانت مجالسهم النيابية وكانت حكوماتهم أقرب إلى الدين والصلاح. من هنا فإنني أدعو دوماً إلى عدم فرض التدين على الناس بقوة السلاح، وإلى الاعتماد على الدعوة التي أجدها أهم المهمّات بعد تحرير الأرض. وليس يُشترَط للدعوة أن يقوم بها أعلم العلماء بل يكفي أن يُعلّم كل مَن عَلِم مَن لم يَعلم، وأن يكون الأصل فيها الرفق واللين والإقناع ومخاطبة القلوب والعقول وليس قهرَ الجوارح والأبدان”.
بمثل هذا الوضوح والصراحة يجب أن يُخاطَبَ كل السوريين عندما يتعلق الأمر بقضيةٍ هي في الصميم من مصيرهم في الحاضر والمستقبل. أما السكوت والمواراة والبحث عن الأعذار فلن تكون جميعاً إلاً سبباً لاستمرار حياة البعض في الأوهام، بل وفي توسيع دوائرها، ولن يكون معناهُ إلا التهرب من المسؤولية ومن أداء الأمانة. لأن الأوهام المذكورة ستخلق للأسف واقعاً مؤلماً لم يكن يوماً هدفاً للسوريين عندما خرجوا يطلبون الكرامة والحرية.
10/8/2013 – الشرق القطرية