غسان المفلح: مقابلة مع الباحث بكر صدقي
مقابلة مع الباحث بكر صدقي
أجرى الحوار غسان المفلح
4 أيلول 2013
الأكيد أنك عندما تمر في لوحة المثقفين السوريين، من يحملون الفكرة النقدية كأساس في نتاجهم المعرفي والإيديولوجي، ستجد أن بكر صدقي واحد من هذه الأسماء. ما يميز أكثرية من المثقفين السوريين أنهم خريجو سجون نظام الأسد، فبكر له تجربة اعتقال تتجاوز الخمسة عشر عاماً، اعتُقل على خلفية يسارية، وهو الكردي السوري، وصاحب الترجمات عن التركية والمتابع النشط لهذا الملف. سيكون لنا إطلالة سريعة عليه. كما أنه من الصعب محاورة سجين رأي سابق في عهد الأسد الأب دون المرور على سؤال السجن ذاته.
القسم الأول
1) ماذا عنى السجن لبكر صدقي؟
كان السجن، في شروط أوائل الثمانينات بعد المحنة الوطنية الكبرى في مطلعها، بلاءً متوقعاً وتجربةً قاسية، استطعت الخروج منها بخسائر قليلة بالقياس إلى غيري. هو، في كل الأحوال، قطعة مسروقة من العمر، لا أحمل نحوها، بخلاف صديقي ياسين، أي امتنان. نُضج الوعي والتخلص من أوهام كثيرة، اللذان حصلت عليهما في فترة السجن، لا أحيلهما إليه بقدر ما أحيلهما إلى التقدم في العمر. اعتُقلت في الرابعة والعشرين، وخرجت في التاسعة والثلاثين. منطقي أن تنضج نظرتي إلى نفسي والعالم في هذه الفترة الطويلة التي شهدت، فوق ذلك، أحداثاً جسيمة. أعني تفكك الاتحاد السوفييتي وسقوط النظام الشيوعي في روسيا والبلدان الأوروبية التابعة لها، واحتلال نظام صدام حسين للكويت ثم طرده منها، واستخدامه للسلاح الكيماوي في ضرب قرية حلبجة الكردية، وانطلاق مؤتمر مدريد، وتسليم الأميركيين رقبة ميشيل عون لحافظ الأسد ورقبة لبنان أيضاً في أعقاب مؤتمر الطائف، ومصرع باسل الأسد وبداية إعداد بشار الأسد لتوريث السلطة… وعلى الصعيد الشخصي فقدت، خلال سنوات السجن، أمي وأبي. ليس السجن، مع ذلك، قطعة سوداء كتيمة من الحياة. ففيها ضحكات ودموع، أوقات مثمرة وأخرى مهدورة، صداقات وخصومات، يأس وأمل، رعب وأمان، تفاؤل وتشاؤم… أي بكلمات مختصرة: حياة كاملة تقريباً.
2) قبل الدخول للحديث عن الثورة السورية، يخطر في بالي سؤال: ستالين كان ديكتاتوراً لكنه صاحب مشروع، وكذلك عبد الناصر، هل ترى أن حافظ الأسد، سوى أنه ديكتاتور، كان صاحب مشروع سياسي واجتماعي؟
أظن أنني سأختلف مع هذه النظرة الشائعة. ففي رأيي لا يمكن لأي دكتاتور أن يكون صاحب مشروع وطني ذي قيمة تاريخية، إلا بكثير من القسر والتلفيق الإيديولوجي. ومن هذا المنظور أتساءل: أي مشروع حقق ستالين أو عبد الناصر، أو كاسترو أو كيم إيل سونغ أو مصطفى كمال أتاتورك؟ فإذا كانت الأعمال بنتائجها، تساوى جميع هؤلاء في أن دكتاتوريتهم كانت وبالاً على شعوبهم وبلدانهم. استطاع ستالين أن يدمر شعوباً كانت قائمة في إطار الاتحاد السوفييتي، وعمّم الرعب فحكم أمة من العبيد، وأهدر إمكانيات التطور الاقتصادي لبلاده من خلال انتهاج نموذج عقيم. احتاجت تركيا إلى ثمانين عاماً، بعد قيام الجمهورية، لتحبو على طريق الديموقراطية وتتخلص من نظام دكتاتوري ونموذج اقتصادي عقيم وحكم نخبوي عنصري، وللتصالح مع ثقافتها الأصلية التي دمّرها أتاتورك. وما زال الشرخ الذي أرسى هذا أسُسه في الاجتماع وفي الثقافة واللغة. لقد أرغم أتاتورك مجتمعاً بأسره على تغيير لغته إلى لغة جديدة لا يفهمها. وفشل في كل رهاناته القائمة على الهندسة الاجتماعية والقسر.
ثمة، بالمقابل، تراكمات تتحقق في ظل الدكتاتوريات، رغماً عن أنفها، بسبب الزمن الطويل الذي يمضي وهم في السلطة. فالزمن لا يتوقف، بخلاف تمنّيات هؤلاء الحكام، والمجتمع يتكيف مع الشروط القاسية المفروضة عليه ويمضي قدماً في إبداعاته ومراكمة إنجازاته.
فإذا كان الأمر يتعلق بتلفيق أيديولوجي لـ«مشروع» أو «إنجازات»، فحافظ الأسد لم يُحرَم هذه «المحاسن». ألا ترى معي، مثلاً، أن قطاعات واسعة من الرأي العام اليساري والقومي والإسلامي في البلدان العربية وخارجها تنظر إلى «سورية الأسد» إلى اليوم بوصفها «قلعة الصمود والتصدي» لإسرائيل و«الإمبريالية»؟ يمكنك الرجوع إلى باتريك سيل للتعرف على ملامح «مشروع» حافظ الأسد وإنجازاته الباهرة في الاقتصاد والاجتماع والثقافة.
حتى بشار الأسد، هذا السفاح الصغير التافه، يمكن لمحبّيه اختراع أسطورة عن «مشروعه» التاريخي في لبرلة الاقتصاد وإدخال التقنيات المتطورة إلى سوريا. فهو الذي أدخل إلى سوريا المتقشفة الإنترنت والهاتف الخلوي والبنوك الخاصة وشركات الصرافة وثقافة المولات الكبيرة ومراكز التسوق… إلخ، ولو أتيح له ما أتيح لأبيه من وقت في السلطة لوجد مؤرخين غربيين يؤلفون عن «عصره» كتباً لا تقل حجماً عن كتاب باتريك سيل عن حافظ الأسد. هذا هو سبب شكوى بشار، منذ اندلاع الثورة الشعبية ضده، من ضيق الوقت الذي منعه من إنجاز «إصلاحاته».
الدكتاتوريات حظوظ يا صديقي. من يعلم؟ لو أتيح الوقت الكافي لأديب الشيشكلي أو حسني الزعيم، أي مشروع تاريخي كان سينجز كل منهما؟
3) كيف ينظر بكر لتجربة تركيا من زاوية ما حدث في الربيع العربي؟ خاصة أنني قرأت لك عما حدث في تقسيم بأنه ثورة..
لا شك أن ثورة تقسيم تأثرت بعمق بما حدث في بلدان الربيع العربي من حيث الزخم الشعبي الذي أطلقته. إن قطاعاً واسعاً من المجتمع التركي ينظر إلى حكم أردوغان، منذ سنوات، بوصفه حكماً استبدادياً كالقدر الغاشم الذي لا يمكن التخلص منه، برغم –وبسبب– الدعم الشعبي الكبير الذي يحظى به في الانتخابات المتتالية. استفاد أردوغان من رداءة أداء القوى السياسية المعارضة له، فكان بالقياس إليها أفضل المتاح. بلغة «الإنجازات» التي تحدثنا حولها في السؤال السابق، نرى أن أردوغان حقق الكثير لتركيا، في الاقتصاد والسياسة والثقافة جميعاً. ثورة تقسيم هي التي أرغمته على الكشف عن وجهه، وجه أي دكتاتور مريض بالسلطة في مواجهة ثورة شعبية. أطلق على شباب تقسيم وصف «الرعاع» المرادف لـ«المندسين» و«الجراثيم» في لغة نظام بشار، واتهمهم بأنهم أدوات مؤامرة خارجية على تركيا، وأعاد الإعلام المستقل إلى بيت الطاعة، وواجه المظاهرات بالقمع العاري المنفلت.
من جهة أخرى، تعامل أردوغان مع ثورات الربيع العربي بارتجالية وتسرّع، فخسرت السياسة الخارجية التركية ألقها الذي اكتسبته خلال عقد من الزمان وجعلت من تركيا لاعباً دولياً مهماً. وقف أردوغان ضد التدخل العسكري الغربي الذي أطاح بنظام القذافي في ليبيا، ثم سعى إلى تصحيح هذا الخطأ في سوريا، فوقع في خطأ أكبر. تسرع في الانحياز إلى الثورة السورية ضد حليفه السابق بشار الأسد، فقطع كل الجسور معه ودخل طرفاً في الصراع. أنا كمعارض ربما أشعر بالامتنان لهذا الانحياز، ولكن من وجهة نظر مصالح الدولة التركية هذا خطأ استراتيجي وقع فيه أردوغان. فالسوريون أنفسهم منقسمون بعمق بين معارضي نظام الأسد ومؤيديه. وكذلك هي حال المجتمع التركي وطبقته السياسية. ثم إن تدخلات أردوغان في شؤون المعارضة السورية سببت أضراراً للثورة نفسها. فقد عمل على مساعدة الإخوان المسلمين على الهيمنة على المجلس الوطني، وأملى على المجلس سياسة سلبية فيما خص الكرد السوريين، ففشل المجلس (ثم الائتلاف) في ضم القوى السياسية الكردية إلى بنيته. وهو ما ترك شرخاً وطنياً مؤذياً وساعد أتباع أوجالان السوريين، المتحالفين مع نظام الأسد، على احتكار تمثيل الكرد كلاعب مستقل عن طرفي الصراع في سوريا. وتنظر الأقليات الدينية والمذهبية في سوريا إلى تركيا بوصفها طرفاً معادياً، مثلها في ذلك مثل قطر والسعودية.
أما بعد ثورة تقسيم، فقد فقد أردوغان رشده تماماً وارتد إلى خطاب إخواني هزيل. راقبْ تصريحاته النارية بصدد أحداث مصر: يصف السيسي بأنه فرعون مصر الجديد! مرة أخرى: قد أتقاطع معه في موقفه من انقلاب السيسي، لكنني كاتب مستقل ولست رجل دولة تركية. ما يحق لي لا يحق لرئيس حكومة تركيا.
4) في أحد تعقيباتك على الصديق ياسين الحاج صالح في موقع الأوان في زمن سابق، أكدت أن معركة تجري في تركيا بين العلمانيين وبين التجربة الأردوغانية (الإسلام السياسي)، مع أنني أميل أن الأردوغانية أهم أسباب نجاحها أنها أسقطت كل مبررات الدولة العميقة أو السلطة السوداء في تركيا، والمعركة تجري برأيي مع فلول سلطة سوداء عميقة تحاول التمترس خلف الأجيال الجديدة التي من الطبيعي أن تتوزع في المستوى السياسي، وبالتالي ليست معركة بين العلمانية وغيرها، لذا ارى أن تجربة أردوغان لم تكن سوى علمانية تركية معاصرة. ما رأيك؟
كان هناك نوع من الشراكة بين المؤسسة العسكرية والتيار العلماني، منذ انقلاب العام 1960 الذي أطاح بحكم عدنان مندريس. ثم جاء انقلاب العام 1980 ضد الخطر اليساري الصاعد، فبدا وكأن طغمة كنعان إيفرين تغازل التيار الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان. أما وقد صعد نجم هذا الأخير في التسعينات، في ظل حكومات يمين الوسط، فقد عاد التحالف بين العلمانيين والمؤسسة العسكرية ليطيح بحكومة أربكان بإنذار عسكري أو انقلاب أبيض. بعد ذلك قام التيار الإسلامي بمراجعة كبيرة لتجربته انتهت إلى انشقاق أردوغان وعبد الله غُل عن أستاذهما أربكان ليشكلا حزب العدالة والتنمية.
صعد الحزب إلى السلطة بزخم شعبي كبير يَدين بقسم مهم منه إلى شخصية أردوغان الكاريزمية، وبقسم آخر إلى الحالة المزرية التي أوصلت الحكومات السابقة تركيا إليها. ويضم الجمهور الناخب لحزب مروحة واسعة من الطبقات الاجتماعية يجمعها الشعور بالغبن من النظام السياسي القائم: من الطبقات الدنيا المسحوقة إلى الرأسمالية الصناعية الصاعدة في مدن وسط الأناضول إلى القطاعات المتدينة المحافظة إلى حوالي نصف الناخبين الكرد.
واصل الحزب في السلطة ما بدأه تورغوت أوزال في الثمانينات من تحرير الاقتصاد من هيمنة المركز (الدولة والعاصمة) واتبع سياسات اجتماعية لصالح الطبقات غير المالكة، وتجنب الاصطدام بالمؤسسة العسكرية، مفوّتاً على التيار العلماني فرصة الاستقواء بانقلاب عسكري يطيح به. وانفتح على الاتحاد الأوروبي وبدأ بتنفيذ التزاماته التي تشترط انضمامه للاتحاد. وفي الوقت نفسه انفتح على العالم العربي والإسلامي في إطار سياسة تصفير المشكلات مع دول الجوار. ثم بخطابه الديماغوجي بشأن القضية الفلسطينية اكتسب مزيداً من المؤيدين في الأوساط الإسلامية الصاعدة في تركيا.
منذ العام 2008 بدأت سلسلة «اكتشافات» إعلامية–بوليسية–قضائية لمحاولات انقلابية ومؤامرات إرهابية للإطاحة بحكم حزب العدالة والتنمية، أضعفت من هيبة الجيش التقليدية في الرأي العام الشعبي، وصولاً إلى الإطاحة التامة بدور هيئة الأركان (الدولة العميقة) في الحياة السياسية.
كان هذا إنجازاً كبيراً أنهى دكتاتورية عسكرية متخفية في ظل حياة برلمانية شكلية لمدة نصف قرن. هو إذن مكسب صافٍ لصالح التحول الديموقراطي. لكن أردوغان اتجه باطراد نحو توطيد حكمه الفردي وجمع كل السلطات الخفية بين يديه. حارب الحركة الكردية بإجراءات بوليسة وقضائية متشددة، وضيَّقَ على الحريات الصحافية فحارب مثقفين في لقمة عيشهم، وتصرف بالسلطة العامة والثروة الوطنية كما لو كانا طوع بنانه وأهوائه الشخصية، وحابى طبقة من رجال الأعمال بامتيازات، فصارت خصومته مكلفة للجميع.
وعى جيل من الشباب على الحياة وهم لا يعرفون قائداً لتركيا غير أردوغان، رجل عصبي المزاج يدخل في سجالات ومهاترات كثيرة مع صنّاع الرأي العام والسياسيين وأصحاب رأس المال، انتهى به المطاف إلى مستبد له رصيد كبير من الشعبية (قائد فاشي)، الأمر الذي عمل على استثماره في مواجهته ثورة تقسيم.
انطلقت الثورة المدنية ضده من حركة احتجاجية صغيرة، اقتصرت على مئات قليلة ممن احتجّوا سلماً على قطع الأشجار. القمع غير المتناسب الذي ووجهت به الحركة أشعل فتيل ثورة شعبية عارمة اتسع نطاقها كل يوم ليشمل معظم المدن التركية، بما فيها تلك المدن التي يسيطر عليها الحزب الحاكم بلا أي منافسة. كان الجسم الرئيسي للثورة يتألف من شبان وشابات في العشرينات من أعمارهم ينفرون من السياسة. التيارات التقليدية المناهضة للحكومة، من علمانيين وماركسيين وبعض القوميين المتشددين، سرعان ما حسمت موقفها وانضمت إلى الاحتجاجات. هذا ما أعطى أردوغان ما أراده لربط الحركة الثورية بخصومه التاريخيين وبهواة الاستقواء بالانقلابات العسكرية، في حين أن ثورة الشباب كانت ضد المعارضة العلمانية بقدر ما هي ضد الحكومة. فهذه المعارضة الهزيلة التي اكتفت بحصتها الثابتة من الناخبين (21- 23 %) منحت حكم العدالة والتنمية إمكانية حكم تركيا إلى أجل غير مسمى.
قتل خمسة شبان بحصيلة المواجهات البوليسية مع المحتجين، واعتقل آلاف، وطُرد 80 صحفياً من وظائفهم، وأصبح التجسس على اتصالات المعارضين أمراً روتينياً وعلنياً. تمادى أردوغان أكثر فربط بين ثورة تقسيم وانقلاب السيسي، ليعتبر ثورة الشباب ضده مؤامرة عسكرية ومؤامرة خارجية من أدواتها جماعات الربا كما سمّاها…
الخلاصة أن ثورة شباب تقسيم بنت على إنجازات أردوغان نفسه لتطالب بالمزيد من الديموقراطية والحريات والانفتاح. ما كانت هذه الثورة ممكنة لولا إطاحة أردوغان بهيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية. بالمقابل كانت الثورة ضرورية لكي لا يتمادى أردوغان في نزوعه السلطوي الشعبوي الذي يقترب من حدود الفاشية الصريحة.
لم ينتهِ الصراع بعد، وإن كانت الموجة الأولى للثورة تم اخمادها بوليسياً. تطورات الربيع العربي في مصر وسوريا بصورة خاصة، سيحددان أيضاً ملامح المرحلة القادمة في تركيا.
5) هل ترى أن الدور التركي كان إيجابياً في حضوره في الثورة السورية؟
سبق وتحدثت عن جوانب سلبية في الدور التركي في الثورة السورية. أضيف هنا الجوانب الإيجابية: لقد قدمت تركيا أردوغان كل ما يمكنها تقديمه للسوريين الثائرين على نظام بشار الدموي. احتضنت الأطر المعارضة، ووفرت الحماية للاجئين السوريين. إن معسكرات اللاجئين في تركيا هي الأفضل بالقياس مع المعسكرات المقامة في بلدان أخرى بشهادة جميع المراقبين. وتقدم الحكومة التركية كل التسهيلات الممكنة للسوريين المقيمين على أراضيها وخارج معسكرات اللاجئين. ليس الحكومة فقط، بل كذلك العديد من منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية. وتحملت تركيا أكلافاً باهظة بسبب موقفها المنحاز إلى الثورة، بما في ذلك مخاطر كبيرة على أمنها القومي. قتل عشرات المواطنين الأتراك بسبب سقوط صواريخ على أراضيها أطلقتها قوات الأسد، وأسقطت له هذه القوات طائرتين، إضافة إلى تفجير السيارتين المفخختين في الريحانية، وأخيراً اختطاف طيارين تركيين في بيروت. ومن وجهة نظر المواطن التركي، وخاصة المعارض لأردوغان، هذه كلها سلبيات تحسب على أردوغان، في حين أنها إيجابيات من وجهة نظر المعارضين السوريين لحكم عائلة الأسد.
6) في ورقتك الكردية مع ياسين تحدثتما عن تجربة البي كي كي (حزب العمال الكردستاني)، فهل لايزال هذا الحزب وفرعه السوري برأيك يعمل في سورية وفق أجندته الأساس في الساحة التركية؟
يتطلب الحديث عن هذا الحزب مساحة كبيرة. سأقتصر على بعض النقاط.
يمكن وصف هذا الحزب بأنه براغماتي إلى درجة الميوعة التامة. إذا تركنا جانباً سياساته الظرفية المتقلبة، لا يبقى منه إلا شيئان: أولهما أن المبدأ الوحيد الذي يتمتع بشيء من الثبات لديه هو تقديس عبد الله أوجالان، إلى درجة أنه يمكن أن يقبل تقديم كل التنازلات لجميع الأطراف مقابل الحصول على إطلاق سراح زعيمه المعبود. وثاني شيء أنه، مثل غيره من المنظمات المسلحة، سلاح للإيجار، ويستطيع دائماً نقل بندقيته من كتف إلى كتف. أما الخطاب الإيديولوجي المتلون عن «القضايا» الكبرى فهو لا يعدو كونه سلعةً للبيع للمستهلكين السذّج. كردستان، أو مصالح الشعب الكردي، أو غيرها من السلع التي يروج لها، لا تعني لقادة هذه المنظمة أي شيء. البي يي دي (حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني) استفاد من فراغ السلطة في المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال سوريا فأقام دكتاتوريته الرثة فيها على «شعبه» الكردي. وهو الآن في صراع على السلطة والنفوذ مع مجموعات جهادية تابعة لمنظمة القاعدة، ويستعد للإعلان عن حكومته المستقلة في تلك المناطق. ولكن هناك دائماً ما يتجاوز الأجندات الضيقة للفاعلين، كما سبق وأشرت في جوابي على سؤال يتعلق بـ«المشاريع التاريخية» للدكتاتوريات. هناك ديناميات كبيرة أطلقتها مفاعيل الثورة السورية، لا يمكن التنبؤ من الآن بنتائجها النهائية. ثمة مؤتمر قومي كردي سينعقد قريباً في أربيل، وسيكون حزب العمال الكردستاني بفروعه طرفاً مهماً فيه. انعقاد هذا المؤتمر مؤشر إلى الفرصة التاريخية المتاحة اليوم أمام الكرد، في الأقاليم الأربعة الموزعين عليها، لتحقيق بعض تطلعاتهم القومية. لا شك أنه سيكون لحزب العمال الكردستاني حصة كبيرة في المستقبل الكردي القريب، بما أنه قوة منظمة وفاعلة، بصرف النظر عن رأينا فيه، بالقياس إلى أحزاب سياسية كردية غير فاعلة كحال الحركة السياسية الكردية في سوريا.
7) هنالك تصريح لصالح مسلم، الأمين العام للبي يي دي، أن هنالك من استعمل الكيماوي في الغوطة لإحراج بشار الأسد، وأن هذا الاخير ليس غبياً لكي يضرب الغوطة بالكيماوي كيف ترى هذا التصريح؟
هذا ثمن يدفعه لاعب صغير للدكتاتور الذي أتاح له حكم «غربي كردستان» كما يسميه. وسرعان ما سنراه يتنصل من كلامه هذا، ربما بعد أيام قليلة. لا مشكلة لدى هذا الرجل في التورط بتصريحات مماثلة. هو ربما يراهن على تكرار سيناريو عراقي نعرفه جيداً: فقد شنّ جورج بوش حربه على العراق بذريعة امتلاكه لأسلحة دمار شامل. ثم «تبين»، بعد سقوط نظام صدام، أن الاستخبارات الأميريكة اختلقت هذه «الكذبة» لتبرير غزو العراق. أين الحقيقة؟ برأيي أن الحقيقة الوحيدة المتفق عليها هي أن صدام ضرب حلبجة فعلاً بالكيماوي. أي أنه كان يملك هذا السلاح فعلاً. وللرد على صالح مسلم، الذي يحاول تبرئة بشار الأسد من ضرب الغوطة بالكيماوي، أقول: لكن قوات الأسد ضربت حي الشيخ مقصود في حلب بالكيماوي، وهو حي تسيطر عليه قوات صالح مسلم بالذات.
القسم الثاني
1) هل الثورة السورية في محنة خاصة، أننا على مشارف وضع جديد بعد ارتكاب نظام الأسد مجازره الكيماوية والحديث عن ضربة عسكرية أمريكية؟
سوريا في محنتها الكبرى فعلاً، وهي اليوم تدفع ثمن رضوخها الطويل لحكم عائلة الأسد، وسكوتها على توريث الجمهورية السورية لبشار الأسد. الثورة بالذات في مأزق كبير، ليس فقط بسبب طول المخاض المؤلم وعدم القدرة على حسم المعركة بقواها الذاتية، ولكن أساساً لأنها فشلت في توحيد السوريين (بمعظمهم) في صف الثورة وضد النظام. عملية التغيير كانت موضع خلاف بين السوريين منذ ظهور «إعلان دمشق» في لحظة تاريخية بدت ملائمة للتخلص من حكم العائلة الأسدية. وهذا أثر من تمزيق وحدة النسيج الوطني الذي راكمه نظام الأسد طوال ثلاثة عقود. كانت ثورات الربيع العربي فرصة لإعادة تلك اللحمة الوطنية وصنع شعب سوري واحد يريد الحرية والكرامة اللتين حرم منهما طويلاً. برأيي، هذا الرهان فشل باصطفاف المكونات «الأقلية» لغير صالح الثورة، ولا أقول لصالح النظام، لأن مواقف تلك المكونات متباينة. أستطيع الجزم بأن الكتلة العظمى من السوريين، بمختلف انتماءاتهم الجزئية، لم تكن راضية عن حكم الطاغية، ومن مصلحتها تغييره. لكن الثورة، وخاصةً المعارضة السياسية المعبرة عنها، فشلت في توحيد توق السوريين إلى الحرية والكرامة في مواجهة نظام القتل والفساد والاستعباد.
أعتقد أنك تريدني، بالأحرى، أن «أحدد موقفي» من الضربة العسكرية الأميركية المرتقبة هذه الأيام. برأيي أصبح هذا ترفاً لا قبل لي به، وتفصيلاً بلا أهمية وسط كل هذا الخراب والدماء والغازات السامة. لقد قال السوريون كلمتهم منذ عامين حين طالبوا في مظاهراتهم صراحةً بتدخل دولي يُنهي مأساتهم. ثم عبروا عن خيبتهم العميقة من موقف «المجتمع الدولي»، الذي سمح للقاتل أن يتدرج في مجزرته وصولاً لاستخدام السلاح الكيماوي. هناك ترحيب واسع النطاق بين السوريين اليوم بأي ضربة عسكرية ضد النظام، وهذا أثر مما فعله النظام طوال ثلاثين شهراً. لا يلومنّ أحدٌ السوريين على مشاعرهم. ولكن إذا استطعنا الابتعاد عن سكرة الوجع وفكرنا بعقل، لا بد لنا أن نتشكك في هدف تغيير الموقف الأميركي من النأي بالنفس إلى الانخراط، وفي جدوى الضربات العسكرية المتوقعة. أميل إلى التشاؤم بهذا الصدد. من المحتمل أن يزيد هذا التدخل، بعد طول امتناع، من تعقيد الوضع، وخاصةً إذا لم تتمكن قوات المعارضة من إسقاط النظام مستغلةً البيئة الملائمة من تفكك محتمل لقوات النظام وانهيار معنوياته. الأميركيون واضحون في أن هدف الضربة المحتملة ليس إسقاط النظام. فإذا بقي النظام بعد الضربة، سوف يزداد شراسةً في استخدام جميع أسلحته لمواصلة تدمير سوريا، باستثناء السلاح الكيماوي الذي اقتنع أخيراً بأنه «خط أميركي أحمر» فعلاً لا قولاً. أما الأسلحة الأخرى فهي مسموحة له ما زالت.
من جهة أخرى، من المحتمل أن تولد الضربة العسكرية المحتملة ديناميات جديدة من الصعب السيطرة عليها من مركز واحد. دخول الحمام ليس كالخروج منه، كما يقول مثل سوري دارج. ما إن تتورط الولايات المتحدة مع حلفائها في أول ضربة، قد تضطر إلى ضربات لاحقة لم تكن تريدها أصلاً. فهذا يتوقف على سلوك النظام وحلفائه بعد الضربة، وعلى الفاعلين الآخرين أيضاً. الولايات المتحدة التي سكتت على الهجوم الإرهابي على سفارتها في بنغازي قد لا تستطيع، أمام الرأي العام الداخلي، التزام صمت مماثل على أعمال عدائية قد تتعرض لها من طرف النظام أو المنظمات الجهادية الموجودة في سوريا.
علينا أيضاً أن نفكر بمؤتمر جنيف 2 المزمع عقده ربما بعد الضربة الأميركية. واضح بالنسبة لي أن الأميركيين يريدون لهذه الضربة أن تشكل مدخلاً لحل سلمي يحقق توزيعاً للمغانم على القوى الفاعلة في سوريا وحولها. مؤتمر جنيف 2 يعني استبعاد السوريين من تقرير مصيرهم، وترك هذا الأمر للروس والأميركيين والإيرانيين والسعوديين والأتراك.. إلخ.
على السوريين اليوم أن يطرحوا على أنفسهم سؤال ما العمل، لكي تكون لهم حصة ما في تقرير مصيرهم إلى جانب الأقوياء.
2) دولة العراق والشام الإسلامية، بما تمثله من فرع للقاعدة كما يتم الحديث عموماً، لم تحرّر شبراً واحداً من الأرض السورية، بل دخلت أرض الشمال السوري، وخاصة الرقة، وأعلنت من هناك عن دولتها هذه. كذلك الحال بالنسبة للبي كي كي، لم يحرّر أي منطقة كردية سورية، بل تم تسليم هذه المناطق له من قبل قوات الأسد، ولا تزال موجودة فيها. وبدأ القتال بين الطرفين!! كيف تقرأ هذه اللوحة؟
ليس مهماً، في حالة الفوضى العارمة التي تركها النظام، هل قاتلت هذه القوى أو حررت؟ هذا يتعلق فقط بالصراع الرمزي حول «امتلاك الحق». حتى نظام الأسد ما زال هناك من يدافعون عنه ولديهم ما يبررون به موقفهم. كل هذا ليس مهماً. ما يمكنني قوله هو أن الخطر الأكبر على سوريا هو نظام الأسد والميليشيات التابعة له وحلفاؤه من حزب الله وأمثاله. وتتدرج الأخطار الأخرى في توزعها على مختلف القوى: الجهاديين والبي يي دي، وكثير من المجموعات المسلحة المدرجة تحت المظلة الوهمية المسماة بالجيش الحر. ولا تقل أهميةً في خطورتها على الثورة وعلى مصير سوريا كثير من الأطر والشخصيات المعارضة التي كان أداؤها السياسي وبالاً على سوريا.
3) كلمة عن المشهد السياسي الكردي السوري، وآخر مستجداته أنه وقع اتفاقاً أولياً للانضمام لقوى الائتلاف، اتفاقاً أزال كل العقبات التي كانت تعترض هذا الانضمام…
بصورة مجردة هذا تطور محمود. لطالما أردنا لممثلي الكرد أن يكونوا جزءاً من أطر المعارضة السورية. لم تكن القوى السياسية الكردية نزيهة في توجهها إلى هذا الهدف. وبالمقابل تصرفت قوى المعارضة المؤتلفة في إطار المجلس ثم الائتلاف بطريقة غير مسؤولة إزاء هذا الموضوع المهم. أظن أن هذا الاتفاق جاء بصورة رئيسية بضغط من جهات غربية، على رأسها الإدارة الأميركية، خاصةً إذا رأينا إلى بنود الاتفاق التي فُرضت فرضاً –برأيي– على الائتلاف، فهي تحقق معظم شروط الطرف الكردي بما فيها شروطاً أصفها بالتعجيزية.
من جهة أخرى هناك الشقاق الكردي–الكردي بين تيار البي يي دي وتيار المجلس الوطني الكردي، وبصورة خاصة الأحزاب المقربة من زعامة البارزاني، دفعت بهذه الأخيرة إلى الاحتماء بالائتلاف من شر البي يي دي.
إذا أردنا التلخيص: هذا «تدخل» أميركي سياسي ممهّد لتدخله العسكري المرتقب لضرب بعض مواقع النظام. أراد الروس أن يشكل الكرد وفدهم المستقل في مؤتمر جنيف 2 ليكون هناك صراع جانبي داخل المعارضة السورية تسجل ثماره لصالح نظام الأسد. في حين أتاحت حماقة النظام في ضرب الغوطة بالكيماوي للأميركي أن يدخل جنيف 2 بشروط ملائمة له: قصف النظام وقصف الائتلاف وقصف الحركة السياسية الكردية معاً تمهيداً لمؤتمر تحديد مصير سوريا.
4) الإشكالية الطائفية وماعنته في سوريا وما كشفت عنه الثورة، ما تأثيرها برأيك على المستقبل السوري؟
لعلني أجبت على هذا السؤال في سياق الأسئلة السابقة. أكرر: فشلت الثورة في صناعة شعب سوري واحد ذي إرادة واحدة وتطلعات واحدة. هذا لا يبشر بخير لمستقبل الكيان السوري. مشاريع التقسيم، التي حذرنا منها منذ وقت مبكر، قد تتحول إلى حل لمشكلة، بدلاً من كونها خطراً تجب مواجهته. أخشى أن نكون تأخرنا كثيراً لتلافي هذا الخطر. النقطة المهمة هنا هي أن السوريين هم الطرف الأضعف بين الأطراف التي تريد رسم مصير سوريا. هل يمكن قلب هذه المعادلة؟ أتمنى ذلك من كل قلبي.
5) التجربة المصرية اعادت من جديد تجربة الإسلام السياسي، عموماً في المنطقة، للبحث واعادة القراءة. أم أن لك رأياً آخر؟ وما تأثير ذلك على الثورة السورية؟
أتاحت ثورات الربيع العربي فرصة كبيرة للإسلام السياسي ليثبت جدارته بقيادة هذه البلدان. لكنه أهدر هذه الفرصة بسرعة قياسية، سواء في مصر وتونس أو حتى في سوريا. وساعد مناهضو الإسلاميين (أي العلمانيون) على وضع مجتمعاتنا أمام الخيارين الكارثيين: الإسلاميين أو العسكر. المثال المخبري إذا جاز التعبير هو الحالة المصرية. لقد ارتكب الإخوان المصريون خطيئة تاريخية، ليس بحق أنفسهم فقط بل بحق مصر ككل. وبالمقابل ارتكب العلمانيون خطيئة مماثلة بتحالفهم غير المبرّر والذيلي مع الدكتاتورية العسكرية. للأسف التحق بذيل العسكر أيضاً كل من الأزهر والكنيسة القبطية، وهما ليستا جهتين سياسيتين. هذا كله سيء. تستحق مصر مصيراً أفضل، بعدما أطلقت أجمل الثورات العربية وأسقطت واحداً من أقبح الديناصورات، حسني مبارك، الذي يستعد اليوم للخروج من سجنه، بفضل الإخوان وخصومهم معاً.
6) أين وضع الثورة الآن، في رؤية بكر صدقي لها؟
ما زالت الثورة، برغم كل الظروف الداخلية والخارجية غير الملائمة، رهاناً قائماً. أتحدث ربما عن شيء ميتافيزيقي أسميه «روح الثورة» وأعرّفه سلبياً هكذا: نظام عائلة الأسد تجاوزه التاريخ منذ وقت طويل، وسقط منذ أول صرخة حرية وكرامة في دمشق ودرعا، وجاءت موجة ثورات الربيع العربي لتشكل السياق الملائم لانطلاق التوق السوري القديم للحرية والكرامة.
7) أخيراً.. لمحت في كتاباتك وتعليقاتك الأخيرة نوعاً من التشاؤم، أم أنه تشاؤم العقل وتفاؤل الارادة؟
نعم، هو تشاؤم العقل.
عن الجمهورية للدراسات