دور سورية الإقليمي: لعنة الصعود ولعنة السقوط – منير الخطيب – الأحد ٢٩ سبتمبر ٢٠١٣
منير الخطيب
خيارات هذا الحدث
دور سورية الإقليمي: لعنة الصعود ولعنة السقوط
منير الخطيب
الأحد ٢٩ سبتمبر ٢٠١٣
اكتوى السوريون والفلسطينيون واللبنانيون وكذلك العراقيون إلى حدود معينة بنيران الدور الإقليمي لسورية في أيام صعوده. فدور سورية الإقليمي، في صورته الأكثر تجريداً وتكثيفاً، كان يعني: ضرب الوطنية السورية من جذورها، كذلك الاعتداء السافر على محاولات تشكّل وطنية لبنانية ووطنية فلسطينية. ومن معاني الدور الإقليمي أيضاً، تشكيل رافعة لـ «كاريزما» القائد لكي «تمحو» من كتب التاريخ والتربية الوطنية كاريزمات ثقيلة، يصعب محوها لأنها راسخة في تاريخ السوريين وضمائرهم وثقافتهم، كهاشم الأتاسي وسعد الله الجابري وفارس الخوري وسلطان الأطرش وعبدالرحمن الشهبندر وغيرهم من رجالات سورية وهم كثر. ومن معانيه أيضاً: تغليف الاحتكار الأقلوي لمصادر السلطة والثروة والقوة، وإكسابه نوعاً من «ذرى المشروعية العليا» كي يستبيح المجتمع تحت لافتاتها.
كما أن أوهام الدور الإقليـمي وتـوليـده باسـتمرار أوهاماً فوق أوهام، كانت تشكل ترياقاً أيديـولوجـياً، يحتاجه المستبد ومن يسبّحون بحمده في آن. فالـمسـتبد بحاجة إلى أيديـولوجيـا «لتــلطّف» وقاحة وفـسـاد السـلطة المـطلـقة، ورهط المـمانعين والـمقاومين واليساريين والقوميين ومشايخ السلطان وكتّابه و«مثـقـفيه» و«فنانيه»، يحـتاجون الى الأوهام «ليـقنعوا» أنفسهم بأنهم ليسوا صغاراً ولـيـســوا مـجرد «عـزقـات» في ماكينة الاستبداد الضخمة. ومن معانـيه «لا صـوت يعلو فوق صوت المعركة»، ليتمكن الاســتبداد مـن توجيه تهمة «إضـعاف عزيـمة الأمـة» الى كل مـن يـجرؤ على نقده. ومن تلك المعاني للدور الإقلـيـمي: المقـايـضـة والبيع والشراء في البازارات الإقليـمـية والدولية في مقابل إهمال الداخل وتصــحيره ســياسيـاً وثـقــافـياً واقتـصـاديـاً. فكلما تضــخمت أوهــام الــدور الإقـلـيمي تضخم بؤس واقـع السـوريين وأحوالهم معها.
إن السوريين يتذكرون جيداً أنه في لحظات أوج الدور الإقليمي، كان متوسط الخدمة العسكرية للفرد السوري يراوح من 5 – 6 سنوات، وحتى بعد تأديته الخدمة العسكرية يظل ممنوعاً من السفر تحت طائلة الطلب لخدمة الاحتياط. وفي السبعينات والثمانينات، في ذروة ديماغوجيا «البعث»، كان السوريون يصطفون بالطوابير للحصول على علبة سمن أو على علبة محارم. وكان الطالب السوري يتخرج في الجامعة وهو لا يعرف اللغتين الفرنسية والانكليزية، في الوقت ذاته الذي كان يضيّع زمناً طويلاً بلا معنى يقضيه في «طلائع البعث» والشبيبة والفتوة والتدريب الجامعي، يكفي لكي يتقن الكثير من لغات الأرض!
بالتأكيد يتحسر السوريون على الأرض السورية الخصبة والغنية، التي شغلتها المطارات والقطع والـكتـائب العسكرية للجـيـش العـقـائـدي خـلال خمـسـين عاماً، كان أجدى بالـسـوريين زراعـتهـا، فـمساحاتها تكفي لإنتاج غذاء المشرق العـربي! وكم من الأموال هدرت على الصور والزينات والاحتـفالات في المناسـبات «القومية»، وعلى المـسيرات الملـيونية وعلى أوقـات البث الإذاعي والتلفزيوني الطويلة والثقيلة الظل، وعلى مهمات ورواتب وسرقات العاملين في ماكينة الإعلام الفاجرة، وكم من الأموال أهدرت على وعلى…
نعم، كان صعود دور سورية الإقليمي لعنة على السوريين، فضلاً عن اللـبنانيين والفلسطينيين. والسقوط الراهن الذي نشهده لهذا الدور ارتد لعنة أكبر عليهم. إن كل أدوات ووسائل وعلاقات ذاك الدور في لحظات صعوده، أضحت، مع سقوطه، أدوات إضعاف للوطـنية الســورية، ووسـائل لذبح السـورييـن، ومـصـدر شقاء مضاعف لهم. فمن الأذرع المـيـليشيوية للنظام السـوري التي كانت أذرعـاً له للإيجار في الـمحـيط الإقليمي، انقلب توحشها الميليشيوي باتجاه صدور السـورييـن، بـدءاً بـ «حـزب الـله» والميـليشيات الـعراقـية مروراً بحـزب الـعمال الكردستـاني وصولاً إلى «جـبهة النـصرة» والتــنـظيمات الـقاعديـة ودكـّان أحمـد جبـريل.
ومع سقوط هذا الدور، أصبحت سورية ساحة مفتوحة أمام صراعات القوى الإقليمية، فضلاً عن أنها أصبحت ساحة مفتوحة من دون ضوابط أمام السياسة الروسية الطامحة إلى إعادة إنتاج أمجادها الإمبراطورية. أما أسلحة «التوازن الإستراتيجي» التي دفع السوريون أثمانها على حساب معيشتهم، فما برحت منذ أكثر من سنتين ونصف سنة تصليهم بحممها العقائدية. ولعل المسألة الأخطر في سقوط دور سورية الإقليمي، هي تراكب هذا الدور مع ظاهرتي الانقسام العمودي والاستبداد: فلقد أطاح «البعث» الدولة السورية، وهرب إلى القومية الفارغة والدور الإقليمي لينتج الطائفية فيهما ويجعل النواة المذهبية هي المتحكمة بهذه الأغلفة الأيديولوجية الرخوة. لذا كان طبيعياً أن يترافق تفكك الدور الإقليمي مع عملية تهتك للنسيج الاجتماعي.
كانت منهجية النظام في سورية، في زمن سطوته، تقوم على معادلة: «تضخيم» الدور الإقليمي مقابل تهميش الداخل وضرب العناصر الوطنية الجامعة فيه، وهذا أسّس لمفهوم: المجتمع هو العدو. وفي زمن سقوط الدور الإقليمي وتحول أدواته السابقة إلى أدوات معادية للوطنية السورية أيضاً، يكون السوريون، بذلك، أمضوا أكثر من خمسين عاماً وهم يدفعون أثماناً خرافية لتجربة «البعث» المشؤومة، والتي ستظل تحكم مستقبلهم إلى أمد ليس بقريب.
آخر تحديث:
السبت ٢٨ سبتمبر ٢٠١٣